الخميس، 13 أغسطس 2020

!Childhood in the United States

إذا ما سألت أحدهم عن أول شيء يذكره في بدايات طفولته تريد بذلك أن تصل إلى أبعد نقطة في ذاكرته ربما سيذكر أمور متفرقة في سنوات الروضة والتمهيدي. وإذا ما سألته عن الفترة التي تبدأ فيها الذكريات في الوضوح ربما كان بعد ذلك.. يؤثر في الإجابة على تلك الأسئلة -كما أحدس- على مقدار التغير الذي حدث في حياته ، فطبيعة التغييرات الكبيرة والمفاجئة أن تكون بارزة بحيث تكاد تمحوا ما قبلها .. دعوني أقول لكم قصتي:

طفل كان يعيش في أحضان والديه نشأ في أسرة متوسطة الحال في مدينة الأحساء، دخل في الروضة مع الأطفال الذين في عمره عاش سنوات هادئة..  ينظر ما حوله ويبهره العالم الذي حوله يرى فيه مكاناً للدهشة والاستكشاف ، في ذلك الوقت حضي والده ببعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليكمل دراساته العليا لينال بها درجة الدكتوراه فيما بعد، لا تزال الصور والمشاهد التي حفت بتلك الرحلة منطبعة في ذهنه ، لايزال يذكر حين كان والده يوماً يقول له : سنذهب إلى أمريكا! لا يعلم ما هي أمريكا وماذا يعني السفر إليها..  إلا إن دهشة تملكته فهو لأول مرة يدرك معنى أن الإنسان قد ينتقل إلى مكان آخر بعيد شيء كان في ذلك الوقت يشكل له نوع من الغرابة، لم يكن يدرك تماماً أن هذا يشكل في حد ذاته تحولاً في حياته، منحه الكثير من الفرص التي لا يحظى بها أي طفل في مثل سنه، فمن يحصل له أن يعيش طفولته في بلد الأحلام، تأتي هكذا كهدية مجانية! THE USA .

هي فرصة إلا أن الصورة لم تكن بتلك الوردية كما يظنها الظان، إنها تجربة حياتية كاملة فيها السعادة والحزن والخير والشر والنشوة والألم والحلوة والمرة كما يقولون ، إنها طفولة كاملة، كأي طفولة وبما أنها حملت هذا الاختلاف شكلت طبيعته بصورتها الخاصة التي أفرغتها فيه بكل ملامحها ، تلك البلاد -شاء أم أبى- جزء منه ومن تكوينه وتاريخه ليس بحكومتها وبروقراطيتها فهذا لا يعنيه في صغير أو كبير إنما بذلك التواصل المباشر مع الطبيعة بتلك الدهشة التي تزرعها فيه البنايات والطرق وكل الأشياء.

قلنا أنه لم يكن يدرك ما هي أمريكا وماذا تعني؟ هل هي دولة نائية وصغيرة أم هي أحد الدول الصناعية ، أم هي الدولة التي تفخر أنا اليوم تمتلك أكبر جيش وأسطول بحري وتسيطر على التجارة العالمية وأسواق النفط! أمريكا بالنسبة إليه لا تعني شيئاً من هذا، إنها خانة فارغة في دماغه ، أو إن شئت فقل علامة استفهام عائمة فوق رأسه الصغير!

تعود به ذكرياته إلى أيام وداع الوطن حينما انتقل مع عائلته من الأحساء إلى الرياض حيث أن الطائرة التي ستأخذهم إلى مطار نيويورك ستقلع من مطار الملك خالد الدولي ، يذكر الليالي التي باتوا فيها في فندق الشيراتون ويذكر تماماً الطائرة وشعار خطوط الطيران السعودي ، حين كان طابعها باللون الأخضر ، يذكر تماماً تجربة الطائرة الغريبة لم يكن يشعر بالخوف بقدر ما شعر بالإثارة!

حطت الطائرة في مطار نيويورك.. أجواء جديدة تماماً ، برد له طابعه الخاص، وأناس يرتدون ملابس مختلفة، إنه شعور جديد . 
طائرة أخرى تأخذ العائلة الصغيرة المكونة من والدين وولدين وبنت إلى المدينة التي سيدرس والده في جامعتها العريقة . وفي الطريق غط في نوم عميق..

عمره خمس سنوات يذكر حينما استيقظ من النوم في الليل في غرفة داخل شقة غريبة، توجه بقدميه الصغيرتين نحو الباب وفتحه وشاهد، كان المشهد محبطاً بعض الشيء ظلام وسيارة واقفة أمام البيت . أكمل نومه واستيقظ صباحاً ، وشاهد أمريكاً!

الأربعاء، 12 أغسطس 2020

كف الأذى..

 نهى الإسلام عن الغيبة والنميمة والبهتان والقول الفاحش واللعن وغيرها من السوكيات المنافية للأخلاق ، يفهم بعض الناس هذه الأمور فهماً خاطئاً سطحياً.. كيف؟ ولنأخذ على سبيل المثال الغيبة والغيبة حذر منها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة في نصوص كثيرة .. وهي ذكر الإنسان إنساناً آخر بكلام يكرهه ويسيء إليه. هذه هي الغيبة.

تجد بعض الناس يقول : (أنا لن أسيء له في غيبته ، إنما سيوجهه بالكلام). فهو يفهم أن الإساءة إلى الآخرين لا بأس بها إن كان ذلك في حضرتهم ، البعض الآخر يطبق في أمور أخرى فهو ينتظر نص مخصوص يمنعه من سلوكه السيئ ولا يدرك أن هناك قواعد شرعية كلية في السلوك فحتى لو اخترع إنسانٌ نوعاً جديداً من الإساءة في الشريعة تحفظ بهذا حق الناس وتحميهم من هذا الأذى، وقد يكون أوتي جدلاً في تبرير هذه الأمور. أو أنك إذا جئت تنهاه عن الإساءة لإنسان يقول أنا لم ألعنه أو أقذف إنما قلت له يا حيوان أو يا غبي فيظن أن الشريعة تعطيه بحبوحة في إطلاق هذه الألفاظ لأنه لم ينه عن أفرادها.. المشكلة هنا أن التقاليد الاجتماعية تتسامح كثيراً في ألوان من الإساءة وهذا يعود لخلل إجتماعي عميق في التقاليد إذ إن المنتظر من الأعراف والتقاليد أنها تحمي الناس وتحقق السلم الاجتماعي ، ولكنها قد تنحرف عن هذا المسار لتبرر إيذاء الآخرين خصوصاً الضعفة والمساكين أو من هو خارج البلد والمنطقة.

 لذلك وجدت الشريعة الخالدة لتضبط حياة الناس، فنهت عن إيذاء الناس بكل أشكاله وألوانه حتى أنها نهت عن إيذاء الكفار المسالمين . قضية (كف الأذى) هي من القضايا الأخلاقية الكبرى التي هي من المقاصد الشرعية المتصلة بالأخلاق ، فهناك ما خصصته الشريعة لمزيد أهميته وهناك ما سكتت عنه لتغيره عبر الأزمان والأماكن لكن جعلت له قواعد ضابطة وأهم هذه القواعد (كف الأذى). يتعلق كف الأذى بالمسؤولية الأخلاقية الممتدة إلى الدار الآخرة فالإيذاء ذنب ومعصية لله ، وكما يبكي الإنسان متضرعاً إلى الله أن يتوب عليه للنظرة المحرمة أو الاستماع المحرم، فإن مما ينبغي الندم عليه والتضرع إلى الله والإنابة إليه لأن يتوب عليه أن يتوب إليه من إيذائه لغيره. إن أوضاعنا بما يتصل لهذه القاعدة تحتاج إلى (ثورة أخلاقية) لا تعيد الفهم الصحيح لهذا المجال فحسب إنما تغير في الواقع ليعيش الناس وفق الشريعة الغراء السامية ويتحقق في المجتمع ما قصدته الشريعة وأرادته في توجيهاتها. 



الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

العمل

هو من مظاهر الحياة ، فبدون العمل تتحول الحياة إلى سكون وجمود بل إلى موت . شجعت الشريعة الغراء ونصوص الكتاب والسنة على العمل في مواضع كثيرة ، حيث ربطت الحياة الطيبة وجعلت من اشتراطاتها (الإيمان) و(العمل الصالح) العمل الذي شجعتنا عليه الشريعة مفهوم واسع وشامل ، فهو عمل للآخرة والنهوض بالعبادة والتقرب إلى الله من صلاة وصيام وزكاة ومناسك وأعمال يبتغى بهى مرضاة الله تبارك وتعالى وهو كذلك عمل للدنيا والسعي في الأرض ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) والحث على الكسب الحلال من تجارة أو صناعة أو زراعة ونحوها ، وأكد على حسن الأداء والإتقان وإعمال العقول لاستخراج منافع الأرض وتطويعها والكفاءة والجودة والإحسان، وكذلك حث على العطاء وفعل الخير والقيام بالأعمال الصالحة والأوقاف ووالأعمال الإغاثية ومساعدة المكروب وتحرير الرقاب (فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) .. 

والإسلام حينما حث على العلم أوجب معه العمل به ، وهنا نجد العلاقة بين العلم والعمل ، بين النظرية والتطبيق ، بين الرؤية والفاعلية .. جاءت الكثير من التعاليم أن العمل بالعلم هي أحد البنود التي يسأل عنها الرجل في الآخرة .. فهنا ندرك أن العلم بحد ذاته مسؤولية ملقاة على عاتق الإنسان .. وترك العمل الواجب ذنب يجب التوبة وتصحيحه.. وقد قال بعض العلماء (أن ترك المأمور به أعظم عند الله من فعل المنهي عنه).

أمتنا تعاني من البطالة فهي لا تنقصها الطاقات إنما تعطلت تلك الطاقات بقلة الفرص من ناحية وشيوع روح الكسل والانغماس في الملذات من الناحية الأخرى..

العمل مظهر من مظاهر الحضارة الإنسانية وهو مقياس ومعيار يوزن به تقدم الأمم وتخلفها، ونحن كمسلمين نمتاز عن باقي الأمم أن جميع أعمالنا و أنشطتنا متمحورة حول الهدف الأسمى وهو عبادة الخالق جل وعلا والسعي إلى محبته. 

(قلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)..
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)..

السبت، 8 أغسطس 2020

مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ

لا تغطي المناهج الدراسية لدينا ولا الوصايا المتفرقة التي ينالها الفرد الناشئ من مصادر شتى تغطية كافية تلبي فيها حاجته للفهم الصحيح والمتزن والمتكامل عن الدين الإسلامي، ذلك الفهم الذي يرتكز على الأصول والمبادئ الكلية للدين والمقاصد العليا في التشريع وإستيعاب ما تمنحه العقيدة الإسلامية من الإجابة الشافية على الأسئلة الوجودية و جوانب تفوق المنظور الإسلامي لمجالات الحياة على غيره من التصورات البشرية. ذلك الفهم الذي يبني لديه الشخصية السوية المنسجمة مع المبادئ الإسلامية والمتفاعلة مع الأمة وقضاياها. 

 إن المراقب لطبيعة الحوارات والنقاشات الدائرة في وسائل التواصل يجد مشكلات عميقة وخطيرة يتمثل بعضها في الإنخراط المبالغ فيه في قضايا هامشية، ونسيان قضايا الأصول والمحكمات التي تجمع الناس ولا تفرقهم. ولا أظن هذا من قبيل ضعف الذاكرة إنما من قبيل غياب تكوين الفهم الصحيح لدين الإسلام المرتكز على المحكمات التي هي أم الكتاب والاستغراق في القضايا الخلافية التي محلها مكاتب البحث في كليات الشريعة أو مجامع الإفتاء . إنك تشعر بالذهول حين ترى حساباً في تويتر أو غيره لديه استعداد أن يناقش في أدق المسائل وأخطرها ، ثم تسأله عن مسأله من الأمور المحكمة تجد الصورة لديه ضبابية أو يسمع منك المعلومة وكأنه سمعها لأول مرة، إذا تتبعت هذه الظاهرة سيروعك المشهد لن تستغرب استلاب كثير من الشباب للشبهات والشكوك أو الاستلاب لأصوات الغلو.. لأنه يفتقد الأرضية التي يجب أن تقف أقدامه عليها. يفتقد التصور الكلي للدين ذلك التصور المبثوث في القرآن الحكيم والذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يزرعه في صاحبته الكرام رضوان الله عليهم. 

ولم يكن مسلم واحد في ذلك الجيل يخفى عليه هذا الفهم الجلي الواضح الذي يعطيه دين الفطرة ودين الإسلام. ولكن الصورة مختلفة في زمننا المعاصر فتجد أن الناس يجدون مالا يحتاجون ويفقدون ما يحتاجون. إن حاجة الناس إلى الاتفاف حول المحكمات والأصول أكبر من غمسهم في تتبع أفراد الشبهات والإشكالات وحلها واحدة واحدة. ولا يفهم من هذا الحديث أن لا تُرد الشبهات أو يفضح المضلون، إنما أريد الإشارة إلى ضرورة عدم اهمال الأساس الذي ننطلق منه ونسيانه وكذلك إلى ضرورة الالتفاف حول المحكمات وتأصيلها وشرحها بصورة متوازنة ودقيقة وبلغة معاصرة فمن شأن هذا أن يهون من الشبهات ويقلل من خطرها ، فالشبهة بالنسبة للجاهل كالمارد الذي يكاد يلتهم عقله ودينه ، أما بالنسبة لمن استقر لديه الفهم الصحيح فإنها تمر عليه كالذباب الذي يهشه فيطير! فلا تحتاج بعدها كل تلك الجهود التي تريد أن تشرح للمسلمين كل شبهة وكيف الإجابة عليها.. 

إن تلك المحكمات تحتاج إلى أن تتكرر على مسامعنا كل يوم. الموضوعات التي تحدث عنها القرآن وكررها كثيراً من الحديث عن التعريف بالله تعالى وأسمائه وصفاته وعلاقتنا به والحديث عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفقهها ومطالعة شمائله وخصاله والحديث عن قدر هذه الحياة والمصير والبعث والحساب والجزاء والعذاب والنعيم ، والحديث عن التفكر في خلق الله الكبير وما صنعه في كوكبنا من النبات والأشجار والحيوانات والشمس النجوم والمجرات، والحديث في مكارم الأخلاق ، والحديث في أعمال القلوب والتزكية والذكر، والحديث عن سنن الله تعالى في الحياة، والحديث عن القضايا الهامة في الأمة من قضية فلسطين وحاضر العالم الإسلامي، وغرس روح الانتماء لأمة الإسلام الكبيرة واحترام الشريعة الإسلامية وفهم مقاصدها ومكارمها  . إن الحديث عن المحكمات والالتفاف حولها وإشاعتها وكثرة تكرارها يمنح الإنسان بصيرة ومناعة عالية ضد أي أخطار تهدد قناعاته الإيمانية وتعطيه حساسية في التفريق بين أهمية الأمور المختلفة والحكمة والبصيرة، وهي قبل ذلك المعبر الأول عن شخصية الأمة ومصدر من مصادر وحدتها، الاتفاف حول المحكمات هو واجب الوقت، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الأحد، 12 أبريل 2020

الإمام الأعظم


الإمام ، فقيه الملة ، عالم العراق أبو حنيفة النعمان الكوفي رحمه الله تعالى، اسمه النعمان بن ثابت بن زوطى.. يكنى بأبي حنيفة ، نشأ وترعرع في الكوفة معدن العلم والعلماء ،  وهو من صغار التابعين وثبت أنه أدرك أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنه، وقيل  أنه رأى صحابة آخرين..

وبسبب نشأته في عائلة غنية واسعة الثروة؛ كان شأنه شأن أبناء التجار ورجال المال  فكان في صباه يتردد على السوق في تجارة أبيه ، وظهرت أمارات نبوغه وفطنته منذ كان صغيراً ويروي لنا هذه القصة التي غيرت مجرى حياته ودفعته باتجاه العلم، يقول: (مررت يوماً على الشعبي وهو جالس، فدعاني، وقال لي: إلى من تختلف؟ فقلت: أختلف إلى السوق.. قال: لم أعن الاختلاف إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء. فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم. فقال لي: لا تغفل، وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة. قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في طلب العلم، فنفعني الله بقوله)..
ثم بدأ برحلة التفقه والتعلم المتواصل، لا ينقطع ولا يرتاح فيواصل الليل بالنهار فالانكباب إلى التعلم.. وأخذ العلم عن عدد كبير من العلماء والتابعين، فتفقه بحماد بن أبي سليمان صاحب إبراهيم النخعي وبغيره، وقال اختلفت إلى حماد خمس عشرة سنة. وفي رواية أخرى صحبته عشرة أعوام، أحفظ قوله، وأسمع مسائله.

وسمع الحديث من عطاء بن أبي رباح بمكة، وقال: ما رأيت أفضل من عطاء. وسمع من عطية العوفي، وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج، وعكرمة، ونافع والكثير من محدثي زمانه. (1)

وسافر في طلب العلم، فكان يحج ويمكث في مكة يأخذ من كبار أئمتها الفقه والحديث وعلوم الشريعة.
وأكثر من لازمه من أهل العلم الإمام الكبير حماد بن أبي سليمان فجلس إليه ، فكان يسمع مسائله ، فيحفظ قوله ، ثم يعيدها من الغد فيحفظها ، ويخطئ أصحابه . فقال حماد : لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة، ثناءً عليه وتقريباً له.

يقول في قصة له: فصحبته عشر سنين . ثم نازعتني نفسي الطلب للرئاسة ، فأحببت أن أعتزله وأجلس في حلقة لنفسي . فخرجت يوما  بالعشي وعزمي أن أفعل ، فلما رأيته لم تطب نفسي أن أعتزله . فجاءه تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة ، وترك مالا ، وليس له وارث غيره . فأمرني أن أجلس مكانه ، فما هو إلا أن خرج حتى وردت علي مسائل لم أسمعها منه ، فكنت أجيب وأكتب جوابي ، فغاب شهرين ثم قدم ، فعرضت عليه المسائل ، وكانت نحوا من ستين مسألة ، فوافقني في أربعين ، وخالفني في عشرين فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت. (2)

وبعد رحلة طويلة في طلب العلم تجاوزت الخمس عشرة سنة، وجلس في حلقة شيخ حماد يعلم طلبته وكانت حلقته فريدة ، وطريقة تعليمه مميز، فلم تكن إلقاءً مجرداً والطلبة يسمعون، إنما كانت أشبه بورشة عمل أو جلسة نقاش ومباحثة، يطرح الإمام فيها المسألة ، ويثير في الطلبة ملكاتهم ويفجر طاقاتهم في البحث والتفكير الفقهي.. حتى يسمع منهم ويقيم إجاباتهم.. فكانوا يتعلمون بهذا الأسلوب الفريد.

من أهم طلابه أبو يوسف الذي أصبح فيما بعد كبير القضاة في الدولة العباسية، وكان من طلبته محمد بن الحسن الشيباني وزفر وغيرهم الكثير.

يصفونه فيقولون أنه حاد الذكاء واسع العلم ، سريع البديهة، غنياً واسع الثروة، جميلاً مهاباً، كثير الصمت إلا في أمور العلم، وإذا تكلم تحدر كالشلال، كان ذا عناية بمظهره وتعطره..

كان من أعظم فقهاء عصره، وصفه الإمام العلامة الذهبي: وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه ، فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك . (3)

وكان قوي الحجة ذكياً قال الشافعي: قيل لمالك : هل رأيت أبا حنيفة ؟ قال : نعم . رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته .

ومن مناقبه أنه كان واسع الحلم، لا يستجيب للاستفزاز أو يستثار من قبل الجهال. ومن عجيب أخباره ما جاء في تاريخ بغداد ، قال عبدالرزاق : شهدت أبا حنيفة في مسجد الخيف، فسأله رجل عن شيء، فأجابه، فقال الرجل: إن الحسن يقول كذا وكذا، قال أبو حنيفة: أخطأ الحسن. قال: فجاء رجلٌ مغطى الوجه، قد عصب على وجهه فقال: أنت تقول أخطأ الحسن يابن الزانية! ثم مضى فما تغير وجهه ولا تلون. ثم قال: إي والله! أخطأ الحسن وأصاب ابن مسعود) (4)

وكان رحمه الله كثير العبادة والقراءة والذكر قال أبو عاصم النبيل : كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته . (5)  وكانت تلك العباده زاده الروحي، الذي يحتاجه المؤمن عامة ويحتاجه العالم خاصة ، يكون وقود له في الحياة وقرباً له من الله سبحانه وبحمده ، فكان كثير قيام الله صاحب خشوع وبكاء وتبتل، وكان كثير الختم لكتاب الله تعالى.. رضي الله عنه وأرضاه.

وأبو حنيفة رضي الله عنه كان مثالا للتاجر التقي، الذي يبتغي من خيري الدنيا والآخرة، فلا تعارض لدى المؤمن بينهما الذي يدعوا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.. فقد كان أبوه خزازاً أي بائعاً للحرير وورث عنه هذه الصنعة فكان يقوم على متجر له كبير يشرف عليه فيه على تجارته، فكان تدر عليه ثروة عظيمة، وكان في ذلك –كما أسلفنا- مثالاً فريجاً في ما يليق أن يلتزمه التجار من المبادئ الأخلاقية والوقوف عن حدود الله والبحث عن الغش والظلم والمعاملات الفاسدة.

طلب مرتين أن يتولى القضاء فرفض، أحدها في أيام حكم بني أمية والأخرى أيام بني العباس قال يحيى بن معين الإمام الحافظ المحدث " كان أبو حنيفة عندنا من أهل الصدق، ولم يتهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة –والي الأمويين على العراق- على القضاء فأبى أن يكون قاضياً"(7). وقال عبيدالله بن عمرو  الرقي :"كلم ابن هبيرة أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة فأبى عليه، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، في كل يوم عشرة أسواط، وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك، فلما رأى ذلك خلى سبيله"(8) وكذلك طلبه المنصور للقضاء فرفض فضربه على ذلك.
وإنها والله لعار وسبة في تاريخنا، أن يضرب عالم إمام فقيه ويهان أمام الملأ، وينال من كرامته بسبب امتناعه عن القضاء.

وأسس أبو حنيفة مدرسة ومنهجاً متكاملاً في الفقه الإسلامي واستنباط الأحكام، والقياس، فينظر في الدليل ويقيس الأشياء بأشباهها والأمثال بأمثالها، سميت فيما بعد بمدرسة الرأي، وانبثق عنها المذهب الحنفي المعروف وأصبح أوسع المذاهب الفقهية انتشاراً في العالم إلى يوم الناس هذا. وقد انتقده الناس في زمانه وروج بعضهم أنه مبتدع –حاشاه- وكثرت عليه الشائعات بسبب المنهج الفريد الذي جدد فيه الفقه الإسلامي حتى صار الناس عيالاً في الفقه عليه كما قال الإمام الشافعي، ومع هذه الاشاعات والهجمات المتعددة فإن كبار السلف أثنوا عليه لما شاهدوه من سعة علمة ودقة نظرته وتميز منهجه، وأن ما قيل فيه أنه يقدم الرأي على القرآن والسنة لا صحة له، وها هو أبو حنيفة رحمه يصف منهجه في جمل قصيرة يقول: "آخذ بكتاب الله، فما لم أجد، فبسنة رسول الله، فما لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر، وجاء إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب، وعدد رجالا- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا"(9).

فكما نرى في هذه العبارات منهج أبي حنيفة واضح جلي ومتكامل ، فاعتماده الأساسي على الوحيين، ويأخذ من أقوال الصحابة ما ترجح من أقوالهم ولا يخرج عنها، وإذا جاء لأقوال من بعدهم من التابعين اجتهد كما اجتهدوا.

ولا يضر أبا حنيفة ما ناله قديماً وحديثاً من قدح، وكم يؤلم القلب حين تشاهد ممن ينتسب للعلم اليوم- ويا للأسف- يرفع عقيرته فيتطاول على هذا الجبل، رحمه الله. فقد أثنى عليه جمع غفير من أئمة السلف ما لا يكاد يحصى أو ينحصر.

روى حيان بن موسى المروزي ، قال : سئل ابن المبارك : مالك أفقه ، أو أبو حنيفة ؟ قال : أبو حنيفة . وقال الخريبي : ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل . قال علي بن عاصم : لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه ، لرجح عليهم . وقال حفص بن غياث : كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر ، لا يعيبه إلا جاهل . وقال الشافعي : الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة . علق الذهبي: والإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام . وهذا أمر لا شك فيه .(11)
وقال أبو معاوية محمد بن خازم الضرير: حب أبي حنيفة من السنة.(12)وقال عنه إمام أهل السنة أحمد حنبل رحمه الله: هو من العلم والورع والزهد وإيثار الدار الآخر بمحل، لا يدركه فيه أحد.(13)

وتوفي رضي الله عنه شهيداً في في سنة 150 هجرية عن عمر يناهز السبعين ، رحم الله أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد وأئمة المسلمين أجمعين إلى يوم الدين، آمين .


___________________
 (1) ينظر: الذهبي، مناقب أبي حنيفة وصاحبيه (19)
(2) ينظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء  (6/399)
(3) المرجع السابق( 6/393-404)
(4)ينظر : الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (13/351-352)
(6) ينظر: النووي، تهذيب الأسماء (2/220)،
(7) ينظر:المزي، تهذيب الكمال (29/424)
(8) المرجع السابق(29/438)
(9) ينظر: ابن أبي العوام، فضائل أبي حنيفة وأخباره (142)
(10) ينظر : البيهقي، مناقب الشافعي (2/268)
(11) ينظر: سير أعلام النبلاء (6/404)
(12) المرجع السابق( 6/401)
(13) ينظر: مناقب أبي حنيفة وصاحبيه (43)







الاثنين، 17 فبراير 2020

محارب الريف



ها نحن في سواحل المغرب المشرفة على الأبيض المتوسط، السواحل الممتدة عرضاً على الشمال المغربي والتي تليها من ناحية الجنوب المرتفعات التي تتنثر فيها قرى الريف العامرة بقبائل البربر.
هناك تقع بلدة أجادير التي يسكن فيها محمد بن عبدالكريم الخطابي المحارب الأسطوري التي سارت بذكره الركبان! ، كانت تلك الفترة يشهد فيه العالم الإسلامي وقتاً عصيباً يرزح فيه تحت نير الاستعمار الأوروبي ، وكانت تلك المناطق متوزعة النفوذ بين الاحتلال الإسباني والفرنسي.
 شعر الخطابي آن ذاك بخطورة الوجود الاسباني على حاضر المغرب ومستقبله  ، وشاهد فيه صور الاستغلال البشعة والاضطهاد لأهالي المغرب ، فحصل التحول الكبير في آماله وطموحاته، فلا غرو وهو ابن القاضي عبدالكريم كبير أجدير وقاضيها. فد بدأ  في عام 1921م برفقة والده بشن غارات على المواقع الإسبانية معلناً فيها إشعال المقاومة الشعبية على الأجنبي المستعمر، لم تطل الحياة بالقاضي عبد الكريم حتى تعرض لجريمة تسميم أدت إلى اغتياله، مما ضاعف شعور محمد عبدالكريم الخطابي بالتبعة فقام بجولات لتوحيد صفوف قبائل الريف بني ويرغال و تمسمان و بني توزين ويقية القبائل.. حتى وحد الصفوف بين سائر تلك القبائل .. وصار الهدف واحداً والغاية واحدة: اخراج المستعمر الأسباني وتحرير أرض المغرب المسلمة!
شعر الإسبان بالتهديد فقاموا بإرسال الجنرال المتغطرس (سلفيستر) مع جيش جرار محمل بالعتاد والمؤونة والأسلحة الثقيلة وجاء بـ ٤٠ ألف جندي لمواجهة خطر الخطابي ومجاهدي الريف. 
كان الخطابي ومن معه الذين لم يتجاوز تعدادهم الثلاثة آلاف!.. يعانون أشد المعاناة من قلة المؤونة والزاد والذخائر فلم يكن للجندي إلا البندقية التي على كتفة وفرسه الذي يركبه.. وكانت الذخيرة محدود فالذي لديه عشر رصاصات سيقتل عشر جنود ومن لديه عشرون رصاصة سيقتل عشرين جندياً.. هذا ما حكاه أحد المعاصرين لهذه المعركة المرتقبة (معركة أنوال).
لا نبالغ إن قلنا أن الخطابي أول من ابتكر أسلوب حرب العصابات لمواجهة الإسبان، كما أنه ابتكر بعبقرية فذة أسلوب الخندق الذي يتسع لرجل واحد بحيث تكون هناك خنادق متباعدة يتسع الواحد منها لرجل أو رجلين، والذي شاع استعماله في حروب التحرير فيما بعد.. وذلك تدبير عبقري حتى إذا أصيب خندق منها يموت واحد بدل أن يهلك جماعة من جنود.
في أنوال ؛ حمحمت خيول المجاهدين وضربت بسنابكها تراب الأرض واشتعل غضب الأبطال حتى كأن أعصابهم قد توهجت كالديناميت متفجرة في وجه الغطرسة الإسبانية! وكر المجاهدون على الجيش الجرار ونزلوا فيهم كالشرار المتلاحق يمطرونهم بالبارود والرصاص. وصوب أحد الجنود الأبطال من بعيد بندقيته بدقة متناهية نحو الكافر (سيلفيستر) فأطلق عليه رصاصة اخترقت أحشاءه وأردته صريعاً!.
كانت ملحمة عظيمة سطرها المجاهدون بدمائهم.. وظهر الانتصار الكاسح الذي سمعت به أقطار الدنيا. وحلت الهزيمة الساحقة في جيش العدو ، قتل فيها الآلاف وغنم الخطابي ومن معه غنائم هائلة . الآلاف البنادق ومئات المدافع والأسلحة الثقيلة.
بعدها بدأ جيش الخطابي يطارد فلول الجيش الإسباني في معارك متلاحقة واستولى على ١٥٠ موقعاً من المواقع التي المحتلة حتى حاصروهم في مليلية المدينة المطلة على البحر الأبيض التي كانت مركزاً للحامية الإسبانية ، فاكتفى الخطابي بهذا الفتح بعد أن حرر مناطق واسعة من المغرب وعاد أدراجه إلى أجادير.
فلما تم له النصر اختار أهل الريف البطل (محمد عبدالكريم الخطابي) ليكون عليهم أميراً فأسس دولة جديدة سماها (جمهورية الريف) وأسس فيها الجيش الشعبي والجمعية الوطنية الريفية (بمثابة مجلس شورى) ووضع دستور الجمهورية واتخذ لها علماً خاصاً، وجعل من أجدير عاصمة لها.
لم تسكت أسبانيا، ولم تنس ما حل بها من ويلات ملحمة أنوال وما تلاها.. فحركت اسبانيا وفرنسا معاً جيشها في انزالات متكررة على الشاطئ الشمالي، واستمر مسلسل الاخفاق لمحاولات القمع أمام الهجمات الحاسمة التي يشنها المجاهدين.
وفي عام ١٩٢٤ قامت إسبانيا وفرنسا بإرسال طائرات تستعمل في قصفها القنابل سامة المحرمة دولياً (غاز الخردل) تستهدف بها مواقع سكانية لأهالي الريف فكثر الضحايا من الأبرياء والمدنيين جراء استعمال تلك الأسلحة الفتاكة وبعد مساعدة الخونة ووقوفهم مع العدو المستعمر واستمرار القصف على الأهالي، اضطر محمد عبدالكريم الخطابي في عام ١٩٢٦ م إلى اتخاذ قرار تسليم نفسه للسلطات الفرنسية حفاظاً على حياة الناس وحقناً لدمائم تحت مقابل ايقاف إلقاء القنابل على المدنيين، فسلم الخطابي نفسه بطريقته الخاصة ، اقتحم بجواده إحدى الثكنات العسكرية الفرنسية!.
وفعلاً حملته باخرة فرنسية لتذهب به بعيداً في أفق المحيط الهندي في جزيرة نائية في طرف العالم اسمها لارينيون..
في عام ١٩٤٧ م مرت باخرة فرنسية كبيرة قادمة من المحيط الهندي متجهه إلى مضيق باب المندب وعندما ركبها أحد سكان اليمن شاهد فيها شيخاً مغربياً كبيراً فاستغرب وجوده وراودته شكوك أنه محمد عبدالكريم الخطابي الذي غاب منذ عشرين سنة! وفعلاً اتصل الرجل على عبدالرحمن عزام أمين عام جامعة الدول العربية ليخبره عن وجود احتمالية كبيرة في أن محمد عبدالكريم الخطابي على متن الباخرة القادمة إلى ميناء بور سعيد ، اتجه عبدالرحمان عزام ليتصل بالسلطات المصرية لينقل إليها بالخبر.. فتم إيقاف تلك الباخرة الفرنسية وأمر من فيها بتسليم المناضل الكبير محمد عبدالكريم الخطابي ، واستقبل الخطابي في مصر استقبال الأبطال وزاره الملك فاروق ووجهاء مصر، وشاع في العالم خبر ظهوره بعد غياب تلك السنين.
محمد عبدالكريم الخطابي كان ملهم حركات الاستقلال ضد الاستعمار حول العالم ، تأثر به الكثير من القادة اعترف بذلك زعيم الحرب والثائر الكوبي تشي غيفارا ولما سمع بوجوده في مصر ذهب لزيارته وأخبره بأنه تعلم منه آلية حرب العصابات ، وكذلك ماو تسي تونغ الزعيم الصيني وكذلك زعيم المقاومة الفيتنامي هو تشي منه.
كانت أسئلة تأتيه حول السر الذي يجعله ينتصر وليس لديه ما يكفي من السلاح فكان يقول أن سلاحي هو الذي أنتزعه من عدوي! هذا هو الخطابي وهذه حكايته حكاية المقاومة والاستبسال، توفي محمد بن عبدالكريم الخطابي في مصر ، وذلك في ٦ فبراير ١٩٦٣ ، ودفن في مقبرة الشهداء بالقاهرة، رحمه الله تعالى.

الأحد، 9 فبراير 2020

الاستمرارية


فكرت اليوم وطال بي التفكير في هذا السؤال : ما الذي يجعل بعض الناس قد قدموا في أعمارهم الكثير من الإنجازات التي عجز عنها غيرهم؟ هل هو الحماس للعمل؟ أم التخطيط ؟ أم العمل الجماعي ؟ أم حسن الإدارة .. كل هذا مجدي ولا شك لكن وجدت أن هنالك عنصر قل من يلتفت إليه برغم أهميته الفارقة في الإنجازات الكبيرة.. وهو (الاستمرارية).


شاهدت قبل عدت سنوات برنامج تلفزيوني شهير يعرض ظاهرة الاستهلاك وسبل توفير الدخل.. فقابل أسرة نجحت في توفير نسبة كبيرة من دخلها عبر متابعة التخفيضات وجمع كوبانات التخفيض وتتبعها .. فسأل تلك السيدة عن سر توفير ذلك المال الكثير؟ فقالت : الاستمرارية .. على بساطة تلك السيدة فيما يبدوا لي أولاً، وعلى بساطة الموضوع ثانياً وقلة ارتباطه بالأعمال والإنجاز والطموحات وما إليها، إلا أن كلمتها رنت في دماغي منذ تلك اللحظة ، وأشعل في ذهني ذلك المصباح الكهربائي المخصوص للأفكار النيرة!.

ومن جميل ما قرأته اليوم في تويتر حول هذا المعنى تغريدة للمدرب الرياضي مصطفى الفرا يقول ما نصه: "القوة والصلابة الذهنية؛ أنك تقدر تمارس حياتك وتمرينك ومهنتك .. وواجباتك ودورك بالمجتمع؛ حتى وأنت ذهنياً مشتت . أو حتى في وجود مشاكل اجتماعية مهنية صحية، تمرس انك تأدي دورك في محيطك حتى وانت نفسياً وذهنياً مش جاهز، الصلابة الذهنية.. يا اخوان!.. مفتاح الاستمرارية، والاستمرارية مفتاح النجاح"..

وقد صدق هذا المدرب وبرَّ ، ولا أكتمكم سراً أني أحب نصائح الرياضيين وأجد فيها حكمة كبيرة ، لأن تلك الحكمة مستفادة من تجربة ملموسة ومرئية .. ولكن نستطيع توسيع مدلول تلك النصيحة التي أسداها الكابتن مصطفى لتشمل أمور كثيرة في حياتنا ..

رجل يريد حفظ القرآن، يسمع عن الحفاظ وعن أخبارهم فيأخذه الحماس لحفظ عدد من الصفحات في اليوم الواحد يستمر في ذلك لعدة أيام ثم تفتر همته. آخر لديه فكرة لمشروع، بدأ ذلك المشروع وتحمس وأعلنه في وسائل التواصل المختلفة ثم مرت شهور وباع بعض ما لديه وجنى بعض الربح ثم أقفل ذلك العمل. شاب يريد الانتظام في برنامج للقراءة يسمع فيها أخبار القراء والعلماء فيأخذه الحماس فيبدأ بالقراءة النهمة ثم شيئاً فشيئاً تضعف دوافعه حتى ينتهي إلى الانقطاع ..

النجاح في هذه الأمور والخروج بنتائج (تبيض الوجه) يحتاج إلى ما أسماه الكابتن مصطفى (الصلابة ذهنية) .. أو قل : (التزام الحرفي) الذي من شأنه أن يجعل السلوك محفوظاً مطرداً في كل الأيام ، لا يتخلف عنه إلا للأعذار الشرعية المرض والسفر – إن صح التعبير- ، الناجحون دائماً مدينون لأعمال يسيرة يعملونها يومياً ويلتزمون بها في مدة طويلة .. جرب أن تخصص نصف ساعة لعمل تريد إنجازه يومياً والتزم به لمدة سنة كاملة التزاماً حرفياً وستذهلك النتائج ..

وهذا كله ذكرني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه أصدق الحديث وكلامه أعذب الكلام وأبركه وأحكمه : ( أحب الأعمال إلى الله أدومها ، وإن قل ) ..