الأحد، 12 أبريل 2020

الإمام الأعظم


الإمام ، فقيه الملة ، عالم العراق أبو حنيفة النعمان الكوفي رحمه الله تعالى، اسمه النعمان بن ثابت بن زوطى.. يكنى بأبي حنيفة ، نشأ وترعرع في الكوفة معدن العلم والعلماء ،  وهو من صغار التابعين وثبت أنه أدرك أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنه، وقيل  أنه رأى صحابة آخرين..

وبسبب نشأته في عائلة غنية واسعة الثروة؛ كان شأنه شأن أبناء التجار ورجال المال  فكان في صباه يتردد على السوق في تجارة أبيه ، وظهرت أمارات نبوغه وفطنته منذ كان صغيراً ويروي لنا هذه القصة التي غيرت مجرى حياته ودفعته باتجاه العلم، يقول: (مررت يوماً على الشعبي وهو جالس، فدعاني، وقال لي: إلى من تختلف؟ فقلت: أختلف إلى السوق.. قال: لم أعن الاختلاف إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء. فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم. فقال لي: لا تغفل، وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة. قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في طلب العلم، فنفعني الله بقوله)..
ثم بدأ برحلة التفقه والتعلم المتواصل، لا ينقطع ولا يرتاح فيواصل الليل بالنهار فالانكباب إلى التعلم.. وأخذ العلم عن عدد كبير من العلماء والتابعين، فتفقه بحماد بن أبي سليمان صاحب إبراهيم النخعي وبغيره، وقال اختلفت إلى حماد خمس عشرة سنة. وفي رواية أخرى صحبته عشرة أعوام، أحفظ قوله، وأسمع مسائله.

وسمع الحديث من عطاء بن أبي رباح بمكة، وقال: ما رأيت أفضل من عطاء. وسمع من عطية العوفي، وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج، وعكرمة، ونافع والكثير من محدثي زمانه. (1)

وسافر في طلب العلم، فكان يحج ويمكث في مكة يأخذ من كبار أئمتها الفقه والحديث وعلوم الشريعة.
وأكثر من لازمه من أهل العلم الإمام الكبير حماد بن أبي سليمان فجلس إليه ، فكان يسمع مسائله ، فيحفظ قوله ، ثم يعيدها من الغد فيحفظها ، ويخطئ أصحابه . فقال حماد : لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة، ثناءً عليه وتقريباً له.

يقول في قصة له: فصحبته عشر سنين . ثم نازعتني نفسي الطلب للرئاسة ، فأحببت أن أعتزله وأجلس في حلقة لنفسي . فخرجت يوما  بالعشي وعزمي أن أفعل ، فلما رأيته لم تطب نفسي أن أعتزله . فجاءه تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة ، وترك مالا ، وليس له وارث غيره . فأمرني أن أجلس مكانه ، فما هو إلا أن خرج حتى وردت علي مسائل لم أسمعها منه ، فكنت أجيب وأكتب جوابي ، فغاب شهرين ثم قدم ، فعرضت عليه المسائل ، وكانت نحوا من ستين مسألة ، فوافقني في أربعين ، وخالفني في عشرين فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت. (2)

وبعد رحلة طويلة في طلب العلم تجاوزت الخمس عشرة سنة، وجلس في حلقة شيخ حماد يعلم طلبته وكانت حلقته فريدة ، وطريقة تعليمه مميز، فلم تكن إلقاءً مجرداً والطلبة يسمعون، إنما كانت أشبه بورشة عمل أو جلسة نقاش ومباحثة، يطرح الإمام فيها المسألة ، ويثير في الطلبة ملكاتهم ويفجر طاقاتهم في البحث والتفكير الفقهي.. حتى يسمع منهم ويقيم إجاباتهم.. فكانوا يتعلمون بهذا الأسلوب الفريد.

من أهم طلابه أبو يوسف الذي أصبح فيما بعد كبير القضاة في الدولة العباسية، وكان من طلبته محمد بن الحسن الشيباني وزفر وغيرهم الكثير.

يصفونه فيقولون أنه حاد الذكاء واسع العلم ، سريع البديهة، غنياً واسع الثروة، جميلاً مهاباً، كثير الصمت إلا في أمور العلم، وإذا تكلم تحدر كالشلال، كان ذا عناية بمظهره وتعطره..

كان من أعظم فقهاء عصره، وصفه الإمام العلامة الذهبي: وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه ، فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك . (3)

وكان قوي الحجة ذكياً قال الشافعي: قيل لمالك : هل رأيت أبا حنيفة ؟ قال : نعم . رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته .

ومن مناقبه أنه كان واسع الحلم، لا يستجيب للاستفزاز أو يستثار من قبل الجهال. ومن عجيب أخباره ما جاء في تاريخ بغداد ، قال عبدالرزاق : شهدت أبا حنيفة في مسجد الخيف، فسأله رجل عن شيء، فأجابه، فقال الرجل: إن الحسن يقول كذا وكذا، قال أبو حنيفة: أخطأ الحسن. قال: فجاء رجلٌ مغطى الوجه، قد عصب على وجهه فقال: أنت تقول أخطأ الحسن يابن الزانية! ثم مضى فما تغير وجهه ولا تلون. ثم قال: إي والله! أخطأ الحسن وأصاب ابن مسعود) (4)

وكان رحمه الله كثير العبادة والقراءة والذكر قال أبو عاصم النبيل : كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته . (5)  وكانت تلك العباده زاده الروحي، الذي يحتاجه المؤمن عامة ويحتاجه العالم خاصة ، يكون وقود له في الحياة وقرباً له من الله سبحانه وبحمده ، فكان كثير قيام الله صاحب خشوع وبكاء وتبتل، وكان كثير الختم لكتاب الله تعالى.. رضي الله عنه وأرضاه.

وأبو حنيفة رضي الله عنه كان مثالا للتاجر التقي، الذي يبتغي من خيري الدنيا والآخرة، فلا تعارض لدى المؤمن بينهما الذي يدعوا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.. فقد كان أبوه خزازاً أي بائعاً للحرير وورث عنه هذه الصنعة فكان يقوم على متجر له كبير يشرف عليه فيه على تجارته، فكان تدر عليه ثروة عظيمة، وكان في ذلك –كما أسلفنا- مثالاً فريجاً في ما يليق أن يلتزمه التجار من المبادئ الأخلاقية والوقوف عن حدود الله والبحث عن الغش والظلم والمعاملات الفاسدة.

طلب مرتين أن يتولى القضاء فرفض، أحدها في أيام حكم بني أمية والأخرى أيام بني العباس قال يحيى بن معين الإمام الحافظ المحدث " كان أبو حنيفة عندنا من أهل الصدق، ولم يتهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة –والي الأمويين على العراق- على القضاء فأبى أن يكون قاضياً"(7). وقال عبيدالله بن عمرو  الرقي :"كلم ابن هبيرة أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة فأبى عليه، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، في كل يوم عشرة أسواط، وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك، فلما رأى ذلك خلى سبيله"(8) وكذلك طلبه المنصور للقضاء فرفض فضربه على ذلك.
وإنها والله لعار وسبة في تاريخنا، أن يضرب عالم إمام فقيه ويهان أمام الملأ، وينال من كرامته بسبب امتناعه عن القضاء.

وأسس أبو حنيفة مدرسة ومنهجاً متكاملاً في الفقه الإسلامي واستنباط الأحكام، والقياس، فينظر في الدليل ويقيس الأشياء بأشباهها والأمثال بأمثالها، سميت فيما بعد بمدرسة الرأي، وانبثق عنها المذهب الحنفي المعروف وأصبح أوسع المذاهب الفقهية انتشاراً في العالم إلى يوم الناس هذا. وقد انتقده الناس في زمانه وروج بعضهم أنه مبتدع –حاشاه- وكثرت عليه الشائعات بسبب المنهج الفريد الذي جدد فيه الفقه الإسلامي حتى صار الناس عيالاً في الفقه عليه كما قال الإمام الشافعي، ومع هذه الاشاعات والهجمات المتعددة فإن كبار السلف أثنوا عليه لما شاهدوه من سعة علمة ودقة نظرته وتميز منهجه، وأن ما قيل فيه أنه يقدم الرأي على القرآن والسنة لا صحة له، وها هو أبو حنيفة رحمه يصف منهجه في جمل قصيرة يقول: "آخذ بكتاب الله، فما لم أجد، فبسنة رسول الله، فما لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر، وجاء إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب، وعدد رجالا- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا"(9).

فكما نرى في هذه العبارات منهج أبي حنيفة واضح جلي ومتكامل ، فاعتماده الأساسي على الوحيين، ويأخذ من أقوال الصحابة ما ترجح من أقوالهم ولا يخرج عنها، وإذا جاء لأقوال من بعدهم من التابعين اجتهد كما اجتهدوا.

ولا يضر أبا حنيفة ما ناله قديماً وحديثاً من قدح، وكم يؤلم القلب حين تشاهد ممن ينتسب للعلم اليوم- ويا للأسف- يرفع عقيرته فيتطاول على هذا الجبل، رحمه الله. فقد أثنى عليه جمع غفير من أئمة السلف ما لا يكاد يحصى أو ينحصر.

روى حيان بن موسى المروزي ، قال : سئل ابن المبارك : مالك أفقه ، أو أبو حنيفة ؟ قال : أبو حنيفة . وقال الخريبي : ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل . قال علي بن عاصم : لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه ، لرجح عليهم . وقال حفص بن غياث : كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر ، لا يعيبه إلا جاهل . وقال الشافعي : الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة . علق الذهبي: والإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام . وهذا أمر لا شك فيه .(11)
وقال أبو معاوية محمد بن خازم الضرير: حب أبي حنيفة من السنة.(12)وقال عنه إمام أهل السنة أحمد حنبل رحمه الله: هو من العلم والورع والزهد وإيثار الدار الآخر بمحل، لا يدركه فيه أحد.(13)

وتوفي رضي الله عنه شهيداً في في سنة 150 هجرية عن عمر يناهز السبعين ، رحم الله أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد وأئمة المسلمين أجمعين إلى يوم الدين، آمين .


___________________
 (1) ينظر: الذهبي، مناقب أبي حنيفة وصاحبيه (19)
(2) ينظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء  (6/399)
(3) المرجع السابق( 6/393-404)
(4)ينظر : الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (13/351-352)
(6) ينظر: النووي، تهذيب الأسماء (2/220)،
(7) ينظر:المزي، تهذيب الكمال (29/424)
(8) المرجع السابق(29/438)
(9) ينظر: ابن أبي العوام، فضائل أبي حنيفة وأخباره (142)
(10) ينظر : البيهقي، مناقب الشافعي (2/268)
(11) ينظر: سير أعلام النبلاء (6/404)
(12) المرجع السابق( 6/401)
(13) ينظر: مناقب أبي حنيفة وصاحبيه (43)







هناك تعليقان (2):

  1. ماشاء الله تبارك الله اوجزت فابدعت وفقك الله.

    ردحذف
    الردود
    1. بارك الله فيك أخي الكريم، وجعلنا الله عند حسن ظنكم.

      حذف