الاثنين، 17 فبراير 2020

محارب الريف



ها نحن في سواحل المغرب المشرفة على الأبيض المتوسط، السواحل الممتدة عرضاً على الشمال المغربي والتي تليها من ناحية الجنوب المرتفعات التي تتنثر فيها قرى الريف العامرة بقبائل البربر.
هناك تقع بلدة أجادير التي يسكن فيها محمد بن عبدالكريم الخطابي المحارب الأسطوري التي سارت بذكره الركبان! ، كانت تلك الفترة يشهد فيه العالم الإسلامي وقتاً عصيباً يرزح فيه تحت نير الاستعمار الأوروبي ، وكانت تلك المناطق متوزعة النفوذ بين الاحتلال الإسباني والفرنسي.
 شعر الخطابي آن ذاك بخطورة الوجود الاسباني على حاضر المغرب ومستقبله  ، وشاهد فيه صور الاستغلال البشعة والاضطهاد لأهالي المغرب ، فحصل التحول الكبير في آماله وطموحاته، فلا غرو وهو ابن القاضي عبدالكريم كبير أجدير وقاضيها. فد بدأ  في عام 1921م برفقة والده بشن غارات على المواقع الإسبانية معلناً فيها إشعال المقاومة الشعبية على الأجنبي المستعمر، لم تطل الحياة بالقاضي عبد الكريم حتى تعرض لجريمة تسميم أدت إلى اغتياله، مما ضاعف شعور محمد عبدالكريم الخطابي بالتبعة فقام بجولات لتوحيد صفوف قبائل الريف بني ويرغال و تمسمان و بني توزين ويقية القبائل.. حتى وحد الصفوف بين سائر تلك القبائل .. وصار الهدف واحداً والغاية واحدة: اخراج المستعمر الأسباني وتحرير أرض المغرب المسلمة!
شعر الإسبان بالتهديد فقاموا بإرسال الجنرال المتغطرس (سلفيستر) مع جيش جرار محمل بالعتاد والمؤونة والأسلحة الثقيلة وجاء بـ ٤٠ ألف جندي لمواجهة خطر الخطابي ومجاهدي الريف. 
كان الخطابي ومن معه الذين لم يتجاوز تعدادهم الثلاثة آلاف!.. يعانون أشد المعاناة من قلة المؤونة والزاد والذخائر فلم يكن للجندي إلا البندقية التي على كتفة وفرسه الذي يركبه.. وكانت الذخيرة محدود فالذي لديه عشر رصاصات سيقتل عشر جنود ومن لديه عشرون رصاصة سيقتل عشرين جندياً.. هذا ما حكاه أحد المعاصرين لهذه المعركة المرتقبة (معركة أنوال).
لا نبالغ إن قلنا أن الخطابي أول من ابتكر أسلوب حرب العصابات لمواجهة الإسبان، كما أنه ابتكر بعبقرية فذة أسلوب الخندق الذي يتسع لرجل واحد بحيث تكون هناك خنادق متباعدة يتسع الواحد منها لرجل أو رجلين، والذي شاع استعماله في حروب التحرير فيما بعد.. وذلك تدبير عبقري حتى إذا أصيب خندق منها يموت واحد بدل أن يهلك جماعة من جنود.
في أنوال ؛ حمحمت خيول المجاهدين وضربت بسنابكها تراب الأرض واشتعل غضب الأبطال حتى كأن أعصابهم قد توهجت كالديناميت متفجرة في وجه الغطرسة الإسبانية! وكر المجاهدون على الجيش الجرار ونزلوا فيهم كالشرار المتلاحق يمطرونهم بالبارود والرصاص. وصوب أحد الجنود الأبطال من بعيد بندقيته بدقة متناهية نحو الكافر (سيلفيستر) فأطلق عليه رصاصة اخترقت أحشاءه وأردته صريعاً!.
كانت ملحمة عظيمة سطرها المجاهدون بدمائهم.. وظهر الانتصار الكاسح الذي سمعت به أقطار الدنيا. وحلت الهزيمة الساحقة في جيش العدو ، قتل فيها الآلاف وغنم الخطابي ومن معه غنائم هائلة . الآلاف البنادق ومئات المدافع والأسلحة الثقيلة.
بعدها بدأ جيش الخطابي يطارد فلول الجيش الإسباني في معارك متلاحقة واستولى على ١٥٠ موقعاً من المواقع التي المحتلة حتى حاصروهم في مليلية المدينة المطلة على البحر الأبيض التي كانت مركزاً للحامية الإسبانية ، فاكتفى الخطابي بهذا الفتح بعد أن حرر مناطق واسعة من المغرب وعاد أدراجه إلى أجادير.
فلما تم له النصر اختار أهل الريف البطل (محمد عبدالكريم الخطابي) ليكون عليهم أميراً فأسس دولة جديدة سماها (جمهورية الريف) وأسس فيها الجيش الشعبي والجمعية الوطنية الريفية (بمثابة مجلس شورى) ووضع دستور الجمهورية واتخذ لها علماً خاصاً، وجعل من أجدير عاصمة لها.
لم تسكت أسبانيا، ولم تنس ما حل بها من ويلات ملحمة أنوال وما تلاها.. فحركت اسبانيا وفرنسا معاً جيشها في انزالات متكررة على الشاطئ الشمالي، واستمر مسلسل الاخفاق لمحاولات القمع أمام الهجمات الحاسمة التي يشنها المجاهدين.
وفي عام ١٩٢٤ قامت إسبانيا وفرنسا بإرسال طائرات تستعمل في قصفها القنابل سامة المحرمة دولياً (غاز الخردل) تستهدف بها مواقع سكانية لأهالي الريف فكثر الضحايا من الأبرياء والمدنيين جراء استعمال تلك الأسلحة الفتاكة وبعد مساعدة الخونة ووقوفهم مع العدو المستعمر واستمرار القصف على الأهالي، اضطر محمد عبدالكريم الخطابي في عام ١٩٢٦ م إلى اتخاذ قرار تسليم نفسه للسلطات الفرنسية حفاظاً على حياة الناس وحقناً لدمائم تحت مقابل ايقاف إلقاء القنابل على المدنيين، فسلم الخطابي نفسه بطريقته الخاصة ، اقتحم بجواده إحدى الثكنات العسكرية الفرنسية!.
وفعلاً حملته باخرة فرنسية لتذهب به بعيداً في أفق المحيط الهندي في جزيرة نائية في طرف العالم اسمها لارينيون..
في عام ١٩٤٧ م مرت باخرة فرنسية كبيرة قادمة من المحيط الهندي متجهه إلى مضيق باب المندب وعندما ركبها أحد سكان اليمن شاهد فيها شيخاً مغربياً كبيراً فاستغرب وجوده وراودته شكوك أنه محمد عبدالكريم الخطابي الذي غاب منذ عشرين سنة! وفعلاً اتصل الرجل على عبدالرحمن عزام أمين عام جامعة الدول العربية ليخبره عن وجود احتمالية كبيرة في أن محمد عبدالكريم الخطابي على متن الباخرة القادمة إلى ميناء بور سعيد ، اتجه عبدالرحمان عزام ليتصل بالسلطات المصرية لينقل إليها بالخبر.. فتم إيقاف تلك الباخرة الفرنسية وأمر من فيها بتسليم المناضل الكبير محمد عبدالكريم الخطابي ، واستقبل الخطابي في مصر استقبال الأبطال وزاره الملك فاروق ووجهاء مصر، وشاع في العالم خبر ظهوره بعد غياب تلك السنين.
محمد عبدالكريم الخطابي كان ملهم حركات الاستقلال ضد الاستعمار حول العالم ، تأثر به الكثير من القادة اعترف بذلك زعيم الحرب والثائر الكوبي تشي غيفارا ولما سمع بوجوده في مصر ذهب لزيارته وأخبره بأنه تعلم منه آلية حرب العصابات ، وكذلك ماو تسي تونغ الزعيم الصيني وكذلك زعيم المقاومة الفيتنامي هو تشي منه.
كانت أسئلة تأتيه حول السر الذي يجعله ينتصر وليس لديه ما يكفي من السلاح فكان يقول أن سلاحي هو الذي أنتزعه من عدوي! هذا هو الخطابي وهذه حكايته حكاية المقاومة والاستبسال، توفي محمد بن عبدالكريم الخطابي في مصر ، وذلك في ٦ فبراير ١٩٦٣ ، ودفن في مقبرة الشهداء بالقاهرة، رحمه الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق