الوعي السنني
من رحمة الله تعالى بخلقه أنه لم
يجعل الكون يسير بالصدفة ولم يجعله يخبط خبط عشواء ، بل جعله يسير على قواعد وسنن
ثابته ، لا تتغير ولا تتحول ولا تجامل أحد على حساب آخر . وجعل ما يقع فيه يحدث
وفق قانون عام دقيق ثابت صارم لا يخرج عن أحكامه شيء.
تسري السنن الإلهية على الكون
كله فتسري في عالم الموجودات المادية ، فتحكمه بقوانين فيزيائية وكيميائية ،
كقانون الجاذبية وقانون القصور الذاتي وغليان الماء عند درجة 100 مئوية وتجمده عند
درجة 0 مئوية.. كل هذه أمثلة على سنن أودعت في (المادة) . وتسري سنن أخرى كذلك في
حياة (الأفراد والجماعات) ، فهي تحكم العلاقات بين الأفراد في المجتمع والعلاقات
بين الأمم و وتحدد عواقب الأفعال وحركة التاريخ وسقوط الحضارات وقيامها والتغير الاجتماعي
وغيرها والتداعيات المنطقية للحوادث. كل هذا لا يتم في وسط عبثي ، إنما ضمن إطار
قانون عام صارم وحتمي وثابت لا يميز ولا يفرق بين إنسان وآخر ، إنما يسير على
الجميع على حد سواء ، فالسنن الإلهية تجري على الأبيض والأحمر والأسود والغني
والفقير والصغير والكبير والمؤمن والكافر والبر والفاجر . ( ليس بأمانيكم ولا
أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً).
وفي القرآن الكريم إشارات عديدة
إلى هذه السنن والقوانين ، فقد بين الله تعالى هذه السنن في مواضع كثيرة ، وجاء
التأكيد القرآني على ثبات وعموم واطراد هذه السنن كما في الآية الكريمة في سورة
فاطر ، قال تعالى: ( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً ). وجاء
في موضع آخر الأمر بالنظر والاعتبار مما جرى للأمم الماضية كنتائج لإعراضها عن هدي
الله وظلمها وتكذيبها للرسل الكرام عليهم السلام وما جرت لهم من سنة الله تعالى
إهلاكهم واستئصالهم، قال تعالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا
كيف كان عاقبة المكذبين ) . وفي القرآن الكريم كذلك ذكر للكثير من السنن والقوانين
العامة مثل قانون السببية، والتدافع، والتداول، والابتلاء، والاختلاف، وتغيير
النعم، وتغيير الأمم، وغيرها من السنن الدقيقة الثابتة المستقرة . لكي يعتبر
الإنسان مما جرى ويسير في طريق النور والهداية التي يعرف فيها عواقب الأعمال التي
يقدم عليها، وهي رحمة واسعة من الله أن كشف له هذه السنن في كتابه الكريم.
إن لمعرفة السنن الكونية أهمية
فكرية كبرى، تمكّن الإنسان المفكر والباحث المتعمق من استخراج الدروس من الحوادث
التاريخية . فبها يقف على أسباب نهوض
الأمم وأفولها . وانتصار الأمم وهزيمتها ، وأسرار التقدم والعمران والاجتماع
البشري ، ولكي يمتلك كذلك القدرة على التنبؤ بما سيحدث مستقبلاً قياساً على ما جرى
في الماضي ، وذلك بمعرفته للنظام والقواعد التي تسير بها الأحداث وتداعياتها، فنحن
نجد أن هناك الكثير من العلماء والمفكرين استطاعوا بإلمامهم ومعرفتهم بسنن
الله في خلقة وطبيعة حركة التاريخ أن يتنبؤوا بأحداث قبل وقوعها بزمن. وليس ذلك من
قبيل ادعاء علم الغيب ؛ فالغيب لا يعلمه إلى الله لكنها معرفة ظنية راجحة، تجعل
الإنسان يمتلك البصيرة لرؤية عواقب الأفعال والأحداث .
أشرنا إلى أن السنن الإلهية يمكن أن
نستقيها من الوحي؛ ولكن من الممكن أيضاً أن نقول أن الإنسان يستطيع بما منحه الله من
القدرة على النظر والتفكير والاستقراء والتعليل أن يكشف عن بعض السنن الكونية .
وهذا ما يقوم به الباحثون في علم الاجتماع وفلسفة التاريخ وعلم النفس والشخصيات
فهم يدرسون طبائع الناس والجماعات والقوانين التي تحكمها ، ومع تقدم الخبرة
البشرية يصل الإنسان إلى نتائج تضيف للفكر الإنساني كشف جديد عن سنة إلهية تفسر
جملة من الظواهر الإنسانية الغامضة. فجزء من مهمة المفكر الباحث والفيلسوف هو
الملاحظة والاستقراء الدائب للكشف عن سنن تتسم بالاطراد والعموم والشمول. وأمر مثل
هذا بحاجة إلى نفس طويل واطلاع موسع وتساؤل وبحث حثيث لا يعرف الهدوء والراحة.
ومما يضيف إلى أهمية دراسة
السنن ، هو أنها من الممكن أن تُجعل كآلة للحكم على صحة الوقائع التاريخية ، ولابن خلدون رحمه
الله إشارات ذكية في هذا الصدد وقد اختار هذا المنهج في مقدمته (العبر) يقول: ( إن
الأخبار إذا اعتمد فيها مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة
العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ، ولا يقيس الغائب منها بالشاهد والحاضر
بالذاهب ، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيدة عن جادة الصدق,
وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في حكايات الوقائع
لاعتمادها على مجرد النقل غثاً وسميناً، لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها
ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في
الأخبار، فضلوا عن الحق وتاهو في بيداء الوهم والغلط ..). فقد كان يؤكد على ضرورة
تمحيص الأخبار التاريخية في ضوء ما ينسجم منها مع السنن الإلهية، وأن يطرح بعد ذلك
ما كان من قبيل المبالغة أو الوهم أو الخرافة.
أخيراً... لم نتطرق في هذه
المقالة إلى الحديث عن سنن بأعيانها أو التوسع في ذكر الأمثلة مع شروح لها لطبيعة
فن المقالة الذي يحتم الاختصار، لكن لعلي أن أكون وفقت لتقريب مفهوم السنن إلى
القارئ الكريم ، وإن شاء الله وكتب لنا من العمر خصصنا بعض المقالات في أوقات قد
لا تكون متعاقبة تناقش بعض هذه السنن وتبسطها بالشواهد والأدلة والشرح، والله ولي
التوفيق.
تعليقات
إرسال تعليق