السبت، 27 يناير 2018

القراءة العمودية


تحدثتُ في تدوينةٍ سابقةٍ عن القراءة الأفقية، والتي عنينا بها: (القراءة في موضوعات متنوعة لتتكون لدى القارئ خلفية موسوعية، ووعياً حول القضايا والشؤون عامة). أما هنا فسوف نتحدث نوع آخر من القراءة والتي أحببنا أن نسميها القراءة العمودية، والتي نقصد بها: (تركيز البحث والتعلم والاطلاع في حقل معرفي محدد، يكون وفقاً للتخصص والمجال الذي ينتمي إليه القارئ). تأتي أهمية القراءة العمودية من أنه لا يغني الاكتفاء بقراءات عشوائية في المكتبة شيئاً، دون وجود هدف ناظم لتساؤلات القارئ، إن القراءة في مجال محدد وتكريس العمر والوقت والطاقة له يعطي القارئ عمقاً، ودقةً، ونفاذاً في التفاصيل والفروع المعرفية حول المجال الذي يتناوله، وما يحدث في الدنيا من إبداعات واختراعات؛ إنما هو نتيجةً طبيعيةً للبحث في فروعٍ معرفية دقيقة، من قبل علماء متخصصين استغرقوا وقتهم في الدراسة والقراءة والبحث في تلك العلوم.

التاريخ العلمي مدين لمجموعة من المتخصصين، الذين نذروا أنفسهم في خدمة فنون دقيقة. وعن طريق بذل قراءة مركزة وعميقة ومتواصلة عبر الأعوام؛ استطاعوا تطوير المجالات المعرفية والإضافة إليها، وإيجاد ثورات علمية، واكتشافات كبرى، ولم تكن تلك الاكتشافات لتحصل دون ذلك التركيز، والبحث الدقيق، والتخصص العميق. وبعد ظهور مبدأ تقسيم العمل في المجالين الصناعي والإنتاجي وغيرهما من المجالات، ازدادت الحاجة إلى وجود عدد كبير من المتخصصين في تخصصات فرعية دقيقة، وفي عصر الاقتصاد المعرفي، وظهور مفهوم رأس المال البشري، أصبح الاعتماد الأساسي على مقدار ما يتمتع به العاملين من معرفة تخصصية، وأصبح ما يملكه الفرد من مؤهلات دراسية وتخصصية وتدريب واطلاع؛ معياراً تنافسياً بين العناصر الفعالة في سوق العمل.

تراجع اليوم دور العالم الموسوعي الذي يستطيع إتقان كل العلوم، بداية من الفلك على سبيل المثال  إلى علم التشريح مروراً بالهندسة والكيمياء وعلوم الشريعة والتفسير والفقه واللغة والأدب كما كان الشأن عند علماء أمتنا كالإمام السيوطي وابن قتيبة وابن الجوزي وابن تيمية والقرافي وغيرهم حين كانت كمية العلوم والمعارف محدودة بالمقارنة مع عصرنا الحاضر، على خلاف الحال اليوم حيث يظهر على الدوام فروع علمية وتفتح في الجامعات تخصصات جديدة وتستحدث في المؤسسات وظائف بمسميات ومهام متجددة، بالإضافة إلى المعلومات متدفقه من كل النواحي في الإنترنت والمكتبات العامة والتجارية والصحف مما لا يستطيع من خلالها الذهن البشري الإحاطة إلا بجزء ضئيل جداً من رصيد المعرفة، ونستطيع القول باختصار: أنه لم تكن للمعرفة العميقة والمتخصصة تلك الأهمية كما هي عليها اليوم!.

من المهم أن نشير إلى أن بعض المجالات والأدوار المجتمعية لها خصوصية في هذا الشأن، حيث تختلف المتطلبات المعرفية لدى الكتّاب في مجالات الفكر والأدب والفلسفة والثقافة عن تلك التي في المجالات الفنية والعلمية الدقيقة، حيث تكون الأخيرة في حاجة أكبر للتركيز في صلب موضوعات التخصص، أما المجالات الأولى المتعلقة بالفكر الإنساني فتتطلب مطالعة لأكبر عدد ممكن من المعلومات والمعارف وذلك لينتزع المثقف منها رؤى وتصورات شاملة، حيث لا يكفيه تركيز البحث في مجال الواحد وذلك لكثرة العلاقات والداخلات التي تكتنف المجالات والقضايا الإنسانية، ولا تتحول تلك المعرفة الواسعة إلى بنية متماسكة للمفكر ما لم تتم القراءة فيها وفق مخطط معرفي هادف وموجه ومرسوم، ومضبوط بمنهج البحث العلمي وقواعد التفكير المستقيم، ومع هذا فتلك القراءة لن تحوله  أحداً إلى متخصص في كل تلك المجالات ولا حاكماً عليها ولا منافساً لأهل الاختصاص، إنما تجعل من المفكر والفيلسوف أفضل من يستطيع الربط واكتشاف العلاقات البينية بين تلك العلوم المختلفة  ورصد ونقد الظواهر العامة في المجتمع.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق