من أين تأتي الأفكار الجديدة؟

نلاحظ جميعاً أنه في كل مرحلة من مراحلنا العمرية تأتي تقنيات جديدة غير مسبوقة، وتنتشر أفكار لم نسمع بها من قبل. بل وكلنا سمعنا من آبائنا كيف أنهم لم يستخدموا عين الأدوات التي نستخدمها لأن كثيراً منها لم يظهر إلا بعد ولادتنا. هذه ليست حالة استثنائية. إننا كبشر نتقدم على مدى التاريخ إلى الأمام من خلال (الأفكار جديدة). ممكن أن تكون هذه أفكار تقنية كاختراع جهاز أو مركبة أو فكرة اجتماعية أو فكرة فنية تضيف لون من الجمالية جديد وغير مسبوق. يأتي في بالنا أحياناً أننا قد وصلنا إلى ذروة التقنية فما الذي بقي للأجيال القادمة من التقنيات والأفكار لم يخترعها الإنسان؟ وفي الحقيقة إن تساؤلاً كهذا موجود في كل عصر من العصور. فلا نلبث قليلاً إلا أن نفاجأ باختراع جديد (يكسر الدنيا)...!.

دعونا نتذكر تلك اللحظات في عام 2007 التي لامست فيها أيدينا جهاز الآيفون. ما هذا الجهاز الذي يملك كل هذه القدرات؟ والتطبيقات الغير محدودة التي تختصر مكتب كامل في جهاز صغير تحمل فيه كاميرا، ودفتر ملاحظات، وماسنجر، وجهاز محمول موصول بالإنترنت، وبريد إلكتروني، وتقويم، وشاشة لمس مذهلة، وجهاز ألعاب، وشاشة ملاحة، وسوق افتراضي يحوي مئات الآلاف من التطبيقات. وهذا مثال من أمثلة الاختراعات التي غيرت حياة الناس. إنه فعلاً شيء عجيب! أليس كذلك؟. إنها معجزة العقل البشري، حين تقفز فكرة ما إلى رأس أحد الأشخاص، فيقوم بمنحها للبشرية لتغير نمط حياتها. إنها من مظاهر قدرة الخالق على إبداع هذا العقل وتركيبه على أحسن صورة. سيظل هذا العقل قادراً على إنتاج الأفكار تلو الأفكار! والأيام حبلى –كما يُقال- بالكثير من الأفكار والتقنيات التي تبدل وتغير من نمط الحياة والمعيشة وتيسر التواصل والعمل والحركة وتزيد الرفاهية والمتعة.

دعونا نحاول أن نتعرف على أسرار (ابتكار الأفكار) ، فقد درس الباحثون في علم النفس ووظائف الدماغ من خلال البحوث الميدانية والإحصائية والسريرية، أساليب توليد الأفكار المبتكرة. وتوصلوا إلى نتائج متقدمة جداً.  ولعلنا نجيب عن سؤال ( من أين تأتي الأفكار الجديدة؟) في النقاط التالية:

1- هناك ما يمكن أن نسميه بالشروط الموضوعية لظهور الأفكار، فحين نتحلى بهذه الشروط ونراعيها تكون لدينا بيئة خصبة للابتكار. منها (طلاقة التفكير) بأن يكون العقل مستعداً لأن يطلق عدد كبير جداً من الأفكار والمفردات المتعلقة بالموضوع. وهذا يولد الكثير من الاحتمالات والخيارات ويوفر بيئة خصبة للابتكار. ومنها (الأصالة) أن تكون مواصلة البحث عن الأفكار الفريدة والجديدة كلياً . ومنها (المرونة) وهي أن نفهم الأمور بطرق متنوعة ومختلفة وننظر لها من وجهات نظر وأبعاد كثيرة. ومنها (العناية بالتفاصيل) أن يتم تجميل الفكرة وأن تضفى عليها لمسات وتفاصيل تنقلها من البساطة إلى التركيب بالإضافة إلى جعلها مناسبة وجذابة.

2- يبدأ المخترعين عملهم بإجراء (تحضير)، ويتمثل في اختيار الشيء الذي يريدون تطويره ، ثم يتم البحث حول هذا الموضوع  بتوسع والإلمام به إلماماً جيداً ، وهذا أمر في غاية الأهمية حيث أن الأفكار تتولد عادة من تلاقح أفكار سابقة ، لكنه لم ينجح أحد في ملاحظة العلاقات فيما بينها . في دراسة وجدوا أن المبدعين يقرؤون مالا يقول عن 50 كتاب في السنة! وهذا ما يزيل عن العجب حينما نتساءل عن قلة الاختراعات لدينا في العالم العربي.

3- التفكير الإبداعي يتسم بالغرابة الشديدة، وهناك (تقنيات بارعة) في توليد الأفكار وبمراعاتها تتولد الكثير من الأفكار الجديدة الغريبة وحين نولد العشرات أو المئات منها تبرز بعض الأفكار الصالحة والملائمة للتطبيق.

- ومنها تقنية (العكس) وتعني عكس الفكرة أو الحركة أو الاتجاه. فمثلاً نقول : القلم يكتب على الورقة. ماذا لو كتبت الورقة على القلم؟ الأمر غريب أليس كذلك؟ وعادة ما نرفض الفكرة من أول الوهلة. لكن في الحقيقة المبتكرون لا يفعلون هذا وسوف أقنعكم. هناك جهاز برز من هذه الفكرة المجنونة لا أذكر اسمه لكنه يستخدم في رسم الخرائط والبنايات فالقلب في هذا الجهاز ثابت وتقوم الورقة بالتحرك ليتم رسم المخطط عليها!

- الدمج بين شيئين مختلفين لا ينتمي أحدهم إلى الآخر بوجه من الوجوه. ماذا لو دمجنا القلم مع الدولاب؟ ودمجنا الضب مع الساعة؟ ودمجنا الكنب مع الدراجة؟ أظن أني لا أحتاج أن أقول أنه من الطبيعي أن تكون الأفكار غريبة. أليس كذلك؟ من هذا الدمج خرجت الكثير من المخترعات. فالكاميرا جهاز . والهاتف جهاز آخر. لو قلت لشخص يعيش في الثمانينات أن هناك هاتف يقوم بالتقاط الصور لوضع كفه على جبينك وقال ( الله يشفيك)! فحتى تخرج بأفكار جديدة حاول أن تدمج بين أشياء لتخرج بفكرة ثالثة جديدة.

- استخدام الشيء لأغراض أخرى. ماذا لو كتبنا بالمفتاح؟ ورسمنا بالمقص؟ ماذا لو استخدمنا الدباب للطيران؟ وغيرها .

(الحذف) حينما نأخذ فكرة ونحذف منها بعض عناصرها تخرج لنا فكرة جديدة. وأحب أضرب مثال بتطبيق الباث هو شبكة تواصل اجتماعي مشهورة عند فئة الشباب، وسبب تميزها في تقديري هو تقنية (الحذف) الباث يشبه كثيراً شبكة الفيسبوك حيث أنه يعتمد على الإضافة والقبول من طرفين، ثم يتم مشاركة المنشورات والصور ومقاطع الفيديو. قامة الباث بحذف الكثير من خصائص الفيسبوك مثل قدرة الغرباء الذين لم يتم اضافتهم على الاطلاع على ما ينشر، وخاصية ألبوم الصور ، وكثيرة الإعلانات والميزات الإضافية ، فخرجنا ببرنامج غاية في اللطافة والجمال. وهذا مثال يقرب قضية الحذف بالملاحظة حاول أن تستحضر بعض الأجهزة والأدوات التي ابتكرت بالطريقة نفسها.

- وغيرها من الوسائل مثل استبدال الأدوار ، وتغيير الترتيب والتكبير والتصغير وتعديل الفكرة وتكييفها كل هذه مولدات للأفكار الجديدة.

4- الخروج بفكرة جديدة يتطلب قدر من إطلاق الخيال والتصور والعيش في ما يسمى بأحلام اليقظة ،  تخيل كثيراً وسجل ما تتخيله .

5- الخروج بفكرة جديدة ليس شيئاً سهلاً ، لا أريد أن أصيب أحداً بالإحباط لكنه فعلاً عملية شاقة تحتاج الارادة وصبر وطول نفس ووقت حتى يتم احتضان الفكرة ، وصمود أمام المثبطين والمقاومين للفكرة ، والكثير الكثير من التجربة والتعلم والبحث والسؤال والاستكشاف . لكنه لحسن الحظ أن الابتكار أبداً ليس مهمة مستحيلة ، بل إنه لا يشترط (الذكاء العالي)، لا نقول أن الأغبياء بمقدورهم أن يكون مبتكرين ، لكن بإمكان متوسطي الذكاء الذين هم أغلب الناس التوصل لأفكار جديدة إبداعية وخلاقة.

في الختام نصيحة أخوية، الفكرة (رأس مال) فمتى ما من الله عليك بفكرة جديدة فلا تقلها لأحد إلا المقربين جداً جداً؛ بل قم بتنفيذها أو تسجيلها كبراءة اختراع. الفكرة التي خرجت بها هي ابنة لك وتنتمي إليك. ستدرك أهمية هذا الكلام إذا -لا سمح الله- خرجت بفكرة عظيمة، ثم قلتها للمجموعة من الأصحاب ثم بشكل عفوي ونية حسنة انتشرت ثم التقطها أحد سارقي الأفكار ونسبها إلى نفسه وجنى منها الكثير من المال، حينها ستشعر أن شيئاً عزيزاً عليك تم السطوة عليه. ومثل هذا ليس من الحوادث النادرة، بل هي مشهورة معروفة في هذا الزمان. احتفاظك بفكرتك ليس بخلاً وليس عدم ثقة بالآخرين أو إساءة الظن بهم -معاذ الله؛ إنما هو من أبسط حقوقك أن تستمتع بنتائج فكرتك وأن يتم نسبة الفكرة لصاحبها الحقيقي. اذهب لأحد مراكز براءات الاختراع المعتمدة وهي كثيرة بالمناسبة واحصل على براءة اختراع. أو على الأقل اعمل نموذج لفكرتك واكتب ملخصاً عنها وقدمه لأحد التجار أو تولى أنت بناء مشروع يجسد فكرتك في أرض الواقع.

بالتوفيق، ولنرَ فكرتك الجديدة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أمام النافذة

القراءة العمودية

التنظيم العضوي