صناعة التفاهة



الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد .
فهذه الورقة القصيرة والحروف الصغيرة التي أطمح أن تكون معينة بعد توفيق الله ، على صياغة تصور عام لفيلم سيعرض في فضاء الإعلام الجديد ، وينشر في وسائل التواصل الاجتماعي ، وسيتناول ظاهرة صناعة التفاهة والمحتوى الرديء في وسائل التواصل الاجتماعي وأثره على الشاب كمرسل ومستقبِل وما تجره من آثار وتداعيات مقلقة ومؤثرة سلباً على المجتمع بأسره والشباب بشكل أخص ، وهذه الورقة ليست سيناريو ولا نص ولا نقاط يجب التقيد بها ؛ لكنه يرسم الخطوط العامة فهو أشبه ما يكون بخارطة مفاهيمية للموضوع ودليل إرشادي معين لتوليد ما يشاء كاتب السيناريو والمخرج والعاملين على الفيلم من أفكار إبداعية  خلّاقة ، وصور ومشاهد وحوارات ، فهو يتناول الظاهرة وملامحها وآثارها وأسبابها وبعض الاقتراحات لتفاديها ، سائلاً المولى القدير أن تقوم بالمهمة وأن ينفع بها القارئ والكاتب .

ملامح الظاهرة
لهذه الظاهرة ملامح يدركها باعتقادي كل من يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي (سناب شات) و (تويتر) و(الواتساب) ومن قبله (انستقرام) و(كيك) و(فيسبوك) . وحين نرى الحسابات التي تنشر النكات والمقاطع الطريفة و-وهي شيء غير سيء بطبيعة الحال- لكن حين يصل متابعيها بعشرات الآلاف ومئات الآلاف بل وبعضها تجاوز خط المليون متابع؛ سندرك أن الأمر سكون أكثر من مجرد مشكلة! ، وحين تكون مشوبة بهدم للقيم والأخلاق والمثُل سنجد أن الأمر يستدعي القلق والاحتراز.
المشكلة ليست في النكات والطرائف المشاهدة بل في تضخم غير طبيعي في الإقبال عليها . وفي بعض الأحيان يتجاوز الأمر مجرد الطرافة إلى ما هو أكثر من ذلك تجد الإساءة للأقاليم والعنف اللفظي وتناول أعراض الناس وأحياناً يأخذ شكل تيار شهواني يعرض الصور الفاضحة والمقاطع الذي أنزه القارئ الكريم عن ذكرها الأمر الذي يهدم ما تبقى القيم الأخلاقية والدينية.
يجب أن نعلم أن الإعلام الجديد بحد ذاته ليس رجساً من عمل الشيطان فهو سيكون ساحة للدعوة والإبداع وقضاء الأوقات الممتعة وسهولة التواصل مع الأصدقاء وغيرها من المنافع ؛ إن أردنا ذلك . حتى الترفيه واللعب ، فهو أمر تميل إليه الفطرة الإنسانية ، ولنا أن نتوقعه أكثر لدى شريحة المراهقين ، لذلك وجب التنبيه إلى عدم اللجوء إلى المبالغة حين نصف هذه الظاهرة لندلل على أهمية الموضوع وخطورته ، بل من الانصاف أن تناولها بشيء من الاتزان والنظرة الشمولية ، ويجب كذلك أن نعلم أن من سنة الله في المجتمعات أن فيها الصالح وغير الصالح ، وفيها من اهتماماته تناطح السحاب ، وآخر يقتات على فتات الحياة! وهذا يحدث حتى في أرقى المجتمعات وأطهرها . الأمر الذي نرفضه  نحذّر منه هو أن تتحول قضية الاهتمامات التافهة وتداعياتها الكريهة إلى ظاهرة عامة تقلق المربين والمصلحين بل والمجتمع بأسره .


الآثار والتداعيات
تشير كثير من الإحصائيات العالمية أن الشعوب الإسلامية -والمجتمع السعودي خصوصاً- يُعد من المجتمعات الأعلى عالمياً في معدلات الشباب ، ولولا ضيق الوقت لزودتُ القارئ الكريم ببعض المصادر، فهو على أية حال مجتمع شاب يافع ، فيا للخسارة الفادحة و يا للثمن الباهض الذي سندفعه حين يتم تضييع هذه الفرصة التاريخية! ، التي تحلم بها أكثر أمم الأرض التي تغلب عليها الشيخوخة والهرم! ، حيث بإمكاننا استغلال إمكانات وطاقات هؤلاء الشباب ليكونوا الأفضل عالمياً في تكوينهم العقلي والنفسي والقيمي ، ونستطيع – كما صنعت اليابان من قبل – استثمار أمثل للطاقة البشرية في البناء الحضاري والتقدم الصناعي والتكنلوجي ، لنكون في مصاف الدول المتقدمة والصناعية . 
ذلك إلى جانب الآثار والتداعيات الخطيرة على المدى البعيد ، فنراها تنخر بشكل بطيء في جنبات الصرح القيمي الذي تتكون لبناته من القيم الإسلامية العظيمة والأخلاق الإنسانية الراقية وتماسك المجتمع الإسلامي ، وانزلاق مريع نحو هاوية الفساد الأخلاقي التي تأخذ سنوياً بازدياد في عصر التواصل الكوني بين الشرق والغرب والثقافات المغايرة ، وضياع الكثير الكثير من الأوقات والطاقات وإدخال الشباب في دوامة من البطالة والعطالة والتشتت والشرود عن الأهداف والغايات والقيام بأعباء الحياة التعليمية والأسرية والشخصية والاجتماعية.


الأسباب والمقدمات
جعل الله لكل مسبَّبِ سبباً وحتى نبحث في مشكلة ما ؛ يجب أ نبحث عن أسبابها دواعيها ، ولنضع المجهر الآن على بعض الأسباب والدواعي التي أدت إلى هذا الظاهرة ‘ ومن جملة تلك الأسباب :

-        نجد أن الفراغ وغياب الأنشطة الحاضنة بشكل كافي من أكبر الأسباب في هذا ، وذلك لأن عصرنا الحالي وهو عصر المؤسسات ، وعصر الأشياء الفائقة والمتقدمة ، لم يعد يكفي الجهود الفردية  المتواضعة ؛ بل لابد من مشاريع ترعاها وتشجعها الحكومات والجهات الرسمية وأصحاب رؤوس الأموال والرأي العام فتقوم بمساندة تلك الأنشطة التربوية والإعلامية التي تحتضن طاقات الشباب ، وهذا موجود بحمد الله لكنه للأسف ليس بالقدر الكافي ولم ينجح في الوصول إلى كافة الشرائح المجتمعية ، إذ أن كثير من الشباب لا يعرف ماذا يفعل في وقته وفي طاقته ، وكما قيل: ( الفراغ أشد إهلاكاً لصاحبه من الخمر ) ، فيلج الشباب إلى أقرب وسيلة مسلية لتمضية أوقاتهم ومن جملتها إساءة استخدام وسائل التواصل ، فيسخرون طاقاتهم فيما لا طائلة تحته ، يلبون بذلك رغبات الشهرة السريعة وفتنة العلاقات بين الجنسين والاستعراض والبهرجة .

-        وأيضاً من الأسباب نجد أن الثقافة الغربية التي تُعد من الثقافات المهيمنة على كل الثقافات في العالم وليس على ثقافتنا فحسب ، قد سلبت ألباب الناس وعقولهم ن حتى أصبح الاستهلاك واللهو والعبث  والمغامرات العاطفية في أعلى سلم الاهتمامات ، وفي اعتقادي أن شعوبنا لم تكتف بتقليد الغربيين بل قد تجاوزت القوم في استهلاك مواقع التواصل في اللهو والعبث ، والاعراض عن التثقف والتعلم والإبداع ، وإن لم تبلغ بعد فسادهم الأخلاقي والقيمي .

-        وآخر الأسباب التي سنذكرها هو تدني مستوى الاهتمامات والتطلعات ، فمستوى تقدم الشعوب بمستوى اهتمامات أفرادها ، والاهتمام هو الذي يصنع الفرق بين الناس قبل أي شيء آخر ، والله المستعان .
هناك الكثير من الأسباب التي من الممكن أن يفيدنا فيها أهل الاختصاص .


ما العمل؟
أردت في بداية تحضيري لهذا البحث أن أترك هذا السؤال للمختصين ، ولكن آثرت أن أشارك ببعض المقترحات ، وهي في النهاية المطاف رأي وأطروحة عامة غير علمية ولا تخصصية ، إنما هي خواطر ذهنية أرجوا من الله أن تساهم في تسليط الضوء على بعض سبل العلاج .
           من جملة ما يجدر بنا عمله هو :

-        أيجاد تيار روحي إيماني يواجه التيار الاستهلاكي ، يتم مساندته من كل مؤسسات المجتمع الرسمية والخاصة وغير الربحية وجهود الأفراد وأن تدرج الأنشطة الدعوية ضمن الخطط التنمية الكبرى ، لأنه إذا غاب صوت الإيمان والحق وجد صوت الباطل طريقه إلى حياة الناس .

-        ثقافة منشدّة إلى الهدف الأسمى وهو عبادة الله تبارك وتعالى ، والسعي إلى محبته ، ومرضاته ، وطلب جنته ودار كرامته ، وهذا سيثمر إخلاصاً عظيماً ، يجعل الشاب عالي الهمة مسخّراً الشهرة والنجاح لصالح الهدف الأسمى وليس مجرد استجابة لدواعي الصيت والمفاخرة والمكاثرة .

-        تنشيط العقل الناقد ، والنقد لا يعني فقط التفتيش عن العيوب فحسب ؛ إنما المحاكمة عقلية لما يُعرض علينا من أفكار ومفاهيم وثقافات وفرز الجيد منها والرديء ، وحين يتشرب الشاب هذا المفهوم ويتقن أدواته يجعله بإذن الله بمعزل عن تسليم عقله لكل ما يشاهده ، وانسياقه خلف العقل الجمعي الذي يقود الجماهير من غير وعي .

-        تقنين الأسرة لاستخدام الأجهزة الذكية ، وتنظيم استعمالها في كل الأوقات ، يساعد على عدم الانجرار وراء إدمانها .

-        المتابعة الأسرية ؛ لأن الأسرة هي الكيان المؤثر تأثيراً مباشر على المراهق والطفل ، وهذا يجعل مسؤولية على الأب والأم معرفة الأنشطة التي يمارسونها أبناءهم وبماذا يهتمون ، وحمايتهم من المواد السيئة والمحتويات الهدّامة ، ويوجهوهم لمعالي الأمور ، والأنشطة النافعة والمثمرة .
  
-        تقنية التحكم الذاتي ، الوازع الداخلي وصوت الضمير والقدرة على إلجام النفس ، وتقوى الله تعالى وخشيته ، ثقافة تحتاج إلى اهتمام عالي وغرس في نفوس وعقول الشباب .
  
-        أنشطة إعلامية فائقة وإبداعية ، ترعى المهارات الإعلامية وتعطي الفرصة لمن يمتلكون اهتمامات الجيدة  ، فحين يبرز أصحاب الاهتمامات الجيدة ، يقل الإقبال على من هو دونهم ؛ لأن العملات القوية تطرد العملات الضعيفة كما يقال .


ختام الكلام
حاولت في هذا الورقة تسليط الضوء على مشكلة المحتوى الركيك في وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيراته على المجتمع والمراهقين بشكل خاص ، وذكرت بعض أسبابه وبعض المقترحات للحد من هذه الظاهرة وتقليصها ، ختماً أنبه إلى أن هذه مجرد خطوط عريضة تعين الإخوان صنّاع الفيلم على صياغة تصور يخدم في بداية العمل على بناء النص والحوارات التي يحتويها هذا العمل ، أسأل الله أن ينفع بها وأن يبارك في الإخوة العاملين في هذا الفيلم ويجزيهم خير الجزاء ، والله الموفق .

عبد الله العريفي

يوم الثلاثاء 12 رجب 1437 هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أمام النافذة

القراءة العمودية

التنظيم العضوي