الجمعة، 2 فبراير 2018

التمركز حول الأصول

على ما تملكه الحضارة الغربية المعاصرة من تقدم علمي وتقني مذهل، إلا أنها مع الأسف فاقده للإطار المرجعي الكلي، ومن تتبع سريع لتاريخ الأفكار خلال الثلاثة قرون الماضية تجد أن تلك الحضارة منذ أن قطعت حبال الصلة مع الدين في عصور التنوير، حتى صارت تحاول أن تنتج باستمرار فلسفات وأفكار جديدة ثم تأتي أفكار أخرى تهدم وتطحن ما قبلها، وذلك لأن العقل قد ارتبك بعد أن تفلت من الأصول والكليات والثوابت وبعدما فقد الإطار المرجعي الذي يوجه حركته. حتى أصبحت الفكرة المحورية في عصرنا هي السيطرة على الطبيعة وتحقيق أكبر قدر من المنفعة واللذة المادية للفرد.

 نحن نعتقد أن العقل بما هو منحة ربانية جعلها الله تعمل وتبدع وتتحرك في إطار الأصول، قد أمن له من خلال الوحي ما يحميه من التشتت والضياع والعدمية ويساعده على الحركة والعمل، فعرفه بالأهداف الكبرى للوجود ثم يلتحم نشاطه وسلوكه اليومي وحططه الحياتية بتلك الأهداف ويصبح لحياته قيمة ومعنى ويتحركه على نور وبصيرة.

العقل الإنساني لا يمتلك القدرة على استشفاف الرؤية الكلية والأهداف الكبرى للوجود من ذات نفسه، إنما يعمل بصورة صحيحة في ظل توفير تلك الأهداف له، لذلك كان مما وفره الوحي للإنسان أن جاءت دعوة الأنبياء عليهم السلام بتعريف الناس بخالق الكون ووحدانيته والرسالة والشرائع والتكليف والبعث والإجابة على الأسئلة الكبرى، دون أن توكل هذه المهمة الشاقة للعقل الإنساني، ثم ترك للعقل بعد ذلك مساحة كبيرة لكي ويبدع ويجتهد ويمارس عمله في إطار تلك الكليات.

ومن نعمة الله تعالى على أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام أنه حفظ لها اتجاهها العام وأهدافها الكبرى، وإن كنا نرى في واقع المسلمين اليوم مع وفرة الاتصال وضغط العولمة على سلوكيات الناس وأذواقهم وأولوياتهم وإحلال أهداف واتجاهات بديلة تدفع نحو الاستهلاك والمتعة والقوة والثراء والمنافسة، مما أضعف استحضار تلك الأهداف وتأثيرها في الحياة الشخصية والعامة. لذلك كان من الحيوي جداً إعادة بعث تلك المعاني في النفوس، في الجهود التربوية والإعلامية والتطوعية.

وفي هذا السياق أقول، أنه المهم العمل المستمر والدؤوب على غرس تلك المعاني مثل معنى أن الإنسان مخلوق لله، هدفه في الحياة هو الفوز برضى الله ومحبته والفوز بدار السلام، ومعنى التكليف والحساب بأن يكون هذا هو المبدأ المحرك الأساسي لجميع تصرفاته وردود أفعاله، وغرس معاني الإيمان وأركانه، وأن ما يملكه إنما هو لله تعالى وإنما هو مستخلف فيه، وأن عليه اتباع منهج الله تعالى في المنشط والمكره، وأن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن العيش فيها هو عيش مؤقت محدود، وأن الحياة الحقيقية هي الحياة الأبدية الخالدة بعد البعث، وحضور معنى القدوة والمثال الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث تكون محبته وطاعته والتأسي وبشخصيته العظيمة.

كما أنه من المهم جداً العمل على إرساء المنظومة القيمية التي تحمي العلاقات في المجتمع، من العدل والإحسان والصدق والأمانة والورع والعمل والعلم والجد والدقة والنظام والنظافة والحفاظ على الوقت وغيرها، وكذلك التوعية بالمقاصد والكليات والتي جاءت الشريعة بحفظها ومراعاتها من حفظ الدين النفس والعقل والنسل والعرض والمال. وكل هذا يدخل في إطار التعريف بالأهداف الكبرى التي تجعل أفكارنا وسلوكياتنا مشدودة نحو الأصول والثوابت والقطعيات التي تحمينا وتحفظ جهودنا العقلية والعملية في ظل تيارات السيولة والتغير والنسبية التي تكاد تطال كل شيء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق