السبت، 10 فبراير 2018

الشيخ السوري

كان يدرسني في السنة الأولى من الجامعة شيخ سوري من المقيمين في الأحساء كبير في السن، قد اشتعل الشيب في لحيته، وكانت تلك المادة الثقافة الإسلامية وهو الشيخ محمد الحياني، تستمر محاضرته لمدة ثلاث ساعات متواصلة من بعد العشاء.

كانت ثقيلة على الطلاب لطولها ولكون الشيخ الجليل كبير السن بطيئ الكلام، لكنها على نفسي كانت أحلى من العسل، وأروح من شهد النحل، فكان أسلوبه قريب من أسلوب شيوخ الشام الكبار، كالطنطاوي والصابوني والصباغ والنابلسي وكان أقرب ما يكون شكلاً من الشيخ محمد لطفي الصباغ.

كانت محاضرته حزمة من دروس الحياة والتجربة الدعوية والعلمية، وكان مما كان يقول: (الإسلام دين حياة، دين جاء ليبني الحياة ويصنع الإنسان ويسعد البشر) لا يكاد ينتقل من نقطة إلى نقطة حتى يقول هذه الكلمة.

وكان ينبه الطلاب الذين كان غالبهم من كلية التربية وبعضهم سينحدر إلى تخصص الدراسات الإسلامية إلى أنه بعد تخرج الطلاب من الدراسة في الجامعة ينظرون إلى ما درسوه بصورة حرفية ويتوقعون أن كل ما يدرس يطبق كما في الكتب، لكن تجربة الحياة ستبين لهم كم هي الحياة مليئة بالتعقيد وكثيراً ما يكون التروي والتوقف في الحكم على الأمور هو الموقف الصائب، وضرب مثلاً بالطبيب حديث التخرج الذي يجزم في تشخيصه بالمرض ويربط الأسباب بالمسببات بصورة حاسم، ثم الذي تمرس الطب لعقود كيف يتوقف ويتروى ويضع الاحتمالات، كان يتحدث حديث الرجل الذي خاض تجربة طويلة في التدريس والتعليم والبحث.

كان لا يتوقف عن الوصية بالرفق واللين في الدعوة والحكمة في الدعوة إلى الله، إلى الرحمة بالناس، إلى العدل بينهم كائنة ما كانت انتماءاتهم، وكان كثيراً ما يستشهد بالنبي الرحيم في حديث أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوماً على جنازة يهودي، فلما قال له الصحابة أنه يهودي، قال لهم ، أليست نفساً؟

كان يحث كثيراً على طلب العلم والإستزادة منه، ويؤكد أن طلبه على الرجل والمرأة على حد سواء، وكان كثيراً ما يعطي ملامح عن الحياة الحضاري في المدينة النبوية، كان درسه عظيماً بالنسبة لي، كان يحضر محاضرته عدد كبير من طلبة السنة الأولى، وسلمت عليه مرة بعد المحاضرة فسألني عن والدي فأخبرته فتذكره فقال: ماشاء الله ماشاء الله ما أسرع الدنيا كيف صرت يا إبني كبرو؟

لا أزال أذكره وأذكر فضله والبصمات التي تركها علينا والمفاهيم والدروس التي غرسها، ولا أدري ما صنع الله به الآن، لكني أدعو له بأن يجازيه خير الجزاء ويرفع قدره ومنزلته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق