الاثنين، 5 يونيو 2017

من حكمة الصوم



الصوم عبادة شرعها الله لتكون في شهر رمضان ركناً راسخ من أركان الإسلام ، دعامة من دعامات الدين الحنيف ، ولتكون نافلة يتنفل بها الأولياء والصالحون في سائر الأيام ، ولكل أمر ونهي شرعه الله تعالى حكمة بل وحكم ومقاصد هائلة تتحقق فيه مصالح في الدنيا والآخرة كيف وهو الحكيم الخبير العليم.. ولهذه العبادة الكريمة الكثير من الأسرار والحكم ، فتسمو بالإنسان إلى أفق الفضيلة ، وتهذب النفس وتزكيها ، وسوف ورد في هذه التدوينة سلسلة من الحكم والأسرار المبثوثة في كتب العلماء الفضلاء . لندرك بها حسن الشريعة وجمالياتها ونستحضر في صيامنا هذه الأسرار فنذوق حلاوة الصوم وندرك معناه فنجد في السير ونتزود من هذه الدار زاد التقوى لدار القرار.

وهذا النداء الإلهي يطرق مسامع المؤمنين وهم يتطلعون إلى طيف الهلال : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ). فالتقوى هي حقيقة الصوم ولبه، والتقوى كما ذكر بعض السلف هي الاحتماء عن فعل الضار، بفعل النافع. فهي خير الزاد لدار المعاد ، وهي جامعة لكل ما يدخل في طاعة الله من فعل الأوامر واجتناب النواهي  التي تنضبط بها إيقاعات حياة المسلم على نحو متناسق ودقيق . وتحقق معاني الاستسلام لأوامر الله الذي ينبع من الثقة به وبحكمته وعلمه وخبرته وترك لمحبوبات النفس إيثاراً لمحبوبات الله . وتحقق معاني إخلاص العبادة له وحده ومراقبته في السر والعلن حيث لا يطلع على صحة صومك إلا هو وحده فتربي بذلك حس المراقبة الذاتية ، ويترقى المؤمن إلى منزلة الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وتفيض هذه الحكمة على الشعوب المسلمة حيث يستيقظ فيها الضمير في أزمنة تاهت فيها الثقة وأصبحت كاميرات المراقبة مبثوثة في كل مكان وهي تكل عن ملاحقة اللصوص والمجرمين، فيأتي الصوم ليحيي في ضمير الأمة معنى أن الله تعالى يراقبها في حركتها وسكونها فلا ينبغي أن تعمل إلا في ما يرضيه .

ومن أسراره أنه يمنح العبد الإرادة الحرة المستقلة التي تتأبى على الإنصياع للمثيرات والرغبات والانفعالات من شهوة أو غضب أو حزن أو إحباط ، فحبس النفس عن المرغوبات ومجاهداتها ورياضتها يجعل العقل في أسمى حالاته حيث يملك الإرتفاع عن ضغط المثيرات فيسلك سبيل الرشد والصلاح ولا تتجاذبه جواذب الطين والأوحال فيغرق في الشهوات ومتاهات الانفعال والوساوس ، فيسمو ويسمو ويملك الاختيار لنفسه وينعتق مما تعلق به من عادات قيدته ولم يستطع عنها فكاكا. إلى آفاق الاطمئنان والسلام والاتساق ووسلوك طريق السعداء .

وهنا سر بديع آخر وهو أن يجد الإنسان في جوفة ألم الجوع ، فيحس بإحساس المحرومين والجياع الذين هدتهم أوهاق الفقر والمسكنة ، فم يجدوا رغيف الخبز .أو جرعة من الماء تطفئ لهيب أمعائهم . فتتحرك في نفسه مشاعر الرحمة والعطف والإنسانية وتهب لنجدة الفقراء ، وتقبل نفسه على الكرم والجود والعطاء المجاني غير المشروط . فكيف حين يعم هذا الشعور أمة كاملة وأي خير وأي غيث هطال تنتظر من معاني التطوع والبذل والعطاء؟ . وكما قال ذلك الشاعر الكريم:

لعمري لقد عضني الجوع عضة
فآليت أن لا أمنع الدهر جائعاً!

ومن بدائع أسرار الصوم ومقاصده أن يصنع مشاعر واحدة لدى الوسط الاجتماعي فيضفي عليه التجانس والتآلف ، فيظهر الناس في موسم الصوم وكأنهم متشبعون بروح واحدة ، ففي ساعات الفطور تجتمع الأسر في كل البيوت ، ويعم الهدوء والسكينة ، ويشعر الجميع في ساعات النهار بأحاسيس الجوع الفقير منهم والغني الأشراف منهم والسوقة شعوراً واحداً سواءاً بسواء في وقت واحد فتذيب وحدة الشعور الحواجز والطبقيات والعنصريات. فيعيد للمجتمع على نحو خفي توحدة وتآلفه واجتماعه حتى تتوج هذه الوحدة في إحتفالية سعيدة في يوم العيد .

والصوم كما قال عليه الصلاة والسلام جُنة أي حماية ووقاية فهو جنة من لهيب الجحيم وجنة من لهيب الشهوة ومهاوي الشبق الجسدي والدوافع الجنسية الطاغية ، فهو الزاد في طريق العفاف والطهارة والفضيلة ، فهو يضيق منافذ الشهوة ويسد مسالك الشيطان . ويعتق الروح فتشرق وتنتصر على طينية الجسد . (يامعشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) أو كما قال  صلى الله عليه وسلم. 

ولو استقصينا أسرار الصوم وحكمه وفلسفته لما وسعته هذه المساحة المحدودة ، فهو مانح للأخلاق الشفيفة ، معين على الصبر، جالب للفرح، وهو كذلك يفيد الجسم، ويثري الروح، ويزكي النفس، ويقرب من المعبود ، وغيرها وغيرها . لكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق ، وتقبل الله صيامكم وقيامكم.

_________________________________

  • زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية.
  • مقال (فلسفة الصوم)، كتاب وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق