الأحد، 15 يناير 2017

القراءة الأفقية

نعيش اليوم في عصر التوسع المعرفي الهائل، فما تقذفه المطابع يومياً من كتب وما يأتي عبر الإنترنت من المقالات والمنشورات، أمر لم تشهد مثله البشرية قط، وهذا يشير إلى تصاعد أهمية الاعتناء الشخصي بالبناء المعرفي والتعلم المستمر وعدم الاكتفاء بالوقوف على ساحل التعليم الرسمي، ولعلنا نلحظ أن الأمم المتقدمة تمتاز عن غيرها بالشغف والهوس في البحث عن اكتشاف المجهول.

لا أريد الاستطراد في أهمية القراءة والمعرفة فهذا معروف، إنما أريد التركيز في المقال على نوعين متمايزين من القراءة، فنستطيع تقسيم القراءة إلى قراءة عمودية (رأسية) وقراءة أفقية، نقصد بالعمودية تلك القراءة تعتني بحقل معرفي محدد ودقيق، أما الأفقية فهي قراءة عامة وموسوعية وشاملة.

في الجامعات ومراكز الأبحاث التابعة للشركات الكبرى وغيرها، يمارس المتخصصون قراءة عامودية تركز التفكير والبحث في بؤرة معرفية محددة داخل تخصصاتهم بهدف اكتشاف حقائق ومفاهيم جديدة غير مسبوقة. يتصف هذا النوع من القراءة بالدقة والنظرة الجزئية ويفيد جداً في التقدم الرأسي في العلم والتخصص الدقيق. لكن قج يصاب القارئ بقصور واضح في ثقافته حين الاكتفاء بهذا النوع وحده من القراءة؛ حيث أن المبالغة فيها مع إهمال التوسع المعرفي يؤدي بالباحث إلى عدم معرفة الترابط بين تكوينات المعارف المختلفة. حيث أن بين العلوم المختلفة الكثير من الروابط والتأثير المتبادل، وكذلك تسبب المبالغة فيها التوقف عند حدود العلم التخصص وعدم القدرة على إضافة أفكار جديدة إليه بالإضافة إلى قصوره عن التأثير بالحياة لكون الواقع عبارة عن خليط من نماذج ومعارف شتى.

يحكي الأديب عباس محمود العقاد عن نفسه قصه لطيفة يذكر أن أديباً زاره في مكتبته فوجد بعض المجلدات في غرائز الحشرات! فقال: أنت تكتب في الأدب وما إليه، فأي علاقة للحشرات بالشعر والنقد الاجتماعي. فقال(مازحاً): نسيتَ أني أكتب أيضاً في السياسة! فقال: نعم .. نسيت والحق معك! .. فما يستغني عن العلم بطبائع الحشرات رجل يكتب في السياسة في هذه الأيام! .. يعلق العقاد على القصة : "والحقيقة –كما قلتُ مراراً- أن الأحياء الدنيا [الحشرات] ما هي إلا (مسودات) التي تتراءى فيها طبائع المخلوقات اللاحقة لها في الزمن، وقد تظهر من (المسودة) أكثر مما تظهر بعد التنقيح. فإذا اطلع القارئ [وهنا الشاهد] على كتاب في الحشرات، فليس من اللازم اللازب أن يطلع عليه ليكتب في موضوعه، ولكنه يطلع عليه لينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى"بتصرف.

يشير هنا إلى أن اطلاع الباحث على علوم مختلفة من تخصصات مختلفة عن تخصص الباحث -ولو بعدت- لها دور كبير في زيادة الفهم في التخصص نفسه! إن القراءة الأفقية التي تعتني بتكوين ثقافة موسوعية خارج نطاق التخصص هي أشبه برحلة مثيرة خارج حدود الأوطان! لا يدري الباحث ما المفاجئات التي تنتظره كما يعبر أحد الكتاب. إن القراءة الأفقية تساعد على النمو الثقافي وخصوبة التفكير.

يبرز هنا إشكال آخر، وهو القصور الذي يتولد من المبالغة في القراءة الأفقية على حساب القراءة العامودية. أود أن أشير إلى أن تشتت القراءة وغياب الاعتناء بالتخصص هي ظاهرة واسعة الانتشار في مجتمعاتنا، وهي لا تقل سوء عن إشكالية المبالغة في القراءة العمودية. لكن لا خيار لنا سوى التوازن بين النوعين فإلى جانب العناية بمجال التخصص بعمل القارئ على إثراء العقل بأنواع مختلفة من العلوم المعارف.

فتكوين ثقافة إسلامية جيدة على سبيل المثال مطلب أساسي، يتم فيها التعرف على أسس الإيمان ونواقضه وما هو معلوم من الدين بالضرورة من المسائل الفقهية في العبادات والمعاملات ومعرفة السيرة وغيرها، وكذلك القراءة فيما يساهم في التنمية الشخصية وأصول التعامل والتواصل والتخطيط الشخصي وكتب في المعارف التجريبية والتقنية والكونية وأخرى في التاريخ والثقافات والأدب والشعر والرواية وغيرها. ويحسن بالمتخصص العناية بالعلوم القريبة من تخصصه، فالمتخصص في العمارة -مثلاً- سوف يفيده كثيرا الاطلاع على علم النفس والسلوك وعلم الاجتماع والإدارة والأنثروبولوجيا والتاريخ والفنون التشكيلية والمدارس الفنية، لأن لها ارتباط وثيق الصلة بالتخصص. وهذا مجرد مثال وقس عليه باقي فروع المعرفة.

في النهاية أوصي من يمارس القراءة أن يقسم قراءاته إلى قسمين، ولتكن نسبتهما 50% و50% أو ما يقاربها. القسم الأول يركز القراءة فيه على الحقل المعرفي الذي يتخصص فيه، والثاني للقراءة العامة الأفقية لتحسين مستوى فهم الحياة وتكوين صورة معرفية كلية جيدة، والله الموفق.

عبدالله العريفي
الأثنين 18 ربيع ثاني 1438هـ

هناك تعليقان (2):

  1. التخصص.. ان تعرف كل شيء عن شيء
    الإبداع.. ان تعرف شيئا عن كل شيء

    ردحذف
  2. تماما هو كما ذكرت يا صاحبي

    ردحذف